الجمال والسياسة
الجمال لم يكن يوما بعيدا عن السياسة أو بمنأى عنها، فكل مشهد جماعي هو توزيع للحس، أي إن ما يسمح أن يرى أو يسمع هو قرار سياسي. يرى الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير أن الجمال ليس رفاهية، بل قرار؛ مشهد احتجاج، لوحة جدارية، سيارة تضرم، أو أزياء تعكس الرفض، كلها تعدّ لقطات جمالية تقاوم.
الجمال هنا ليس مجرد زخرفة، بل يصبح لغة فعل: الجمال سلاح، بمعنى أنه يقاوم خيباتنا اليومية المميتة. بهذا المعنى، تغدو نضالات الشعوب من أجل الحرية فعل جمال، وهتافات الذين مشوا في شوارع العواصم في العالم فعل جمال، وصبرنا على فتك الحرب فعل جمال.
وسط الأزمات والمجاعات والقتل والأمراض والأوبئة التي تفتك بالعالم اليوم، لا يكتفي الجمال بأن يكون زينة، بل يصبح ملاذا ومقاومة. لأنه، وبحسب دراسة في علم الجمال، ملاذ للخبرة الجماعية، أي ما هو جدير بالاهتمام، ما يغدو دستورا إدراكيا للقيم التي نؤمن بها، وهكذا يصبح الجمال ومقاومة في مواجهة قسوة العالم.
عصر الصورة والتشوه الرقمي
يعيش الجمال اليوم امتحانا صعبا. في عصر الفلاتر السريع، وعمليات التجميل وضبط المقاسات والأشكال المصقولة، والبحث عن الشباب الدائم، والمنصات التي تستهلك المحتوى بسرعة الضوء، يطرح السؤال: هل الجمال الذي نراه حقيقي أم مجرد إيقاع مبرمج لصورة نموذجية غدت غاية في ذاتها؟
بحث بعنوان “الجمال البنيوي” وجد أن هناك بنية جمالية يمكن قياسها في الصور، أي إن الجمال ليس شخصيا خالصا، بل له أبعاد مشتركة بين الثقافات. ومع ذلك، عندما يصمم الوجه والبيت واللحظة الملتقطة لتلائم شبكة الجمال الرقمية، تشعر أن الجمال أضحى قيمة تبادلية، تناسب منظومة السوق والإعلام، ولم تعد قيمة ذاتية حرة.
الجمال كقيمة أخلاقية
الجمال الحقيقي يرفض الظلم، ويحمل في بواطنه التوازن والعدل والرحمة. تراه في أدق التفاصيل يشعّ بهذه المعاني، وترى النفس الإنسانية تستجيب لحضوره. تجربة الجمال، سواء في الفن أو الطبيعة أو الموسيقى، تحفز ما يعرف بالانسجام المعرفي والعاطفي في الدماغ، ما يمكن أن يخفف التوتر ويعزز الشعور بالمعنى.
البحوث تشير إلى أن الجمال حاجة نفسية راسخة ومشتركة بين البشر. هنا يكون الجمال مسهما جوهريا في بناء ضمير إنساني موحد، يشترك فيه الإنسان في تذوق معنى الاختلاف، ويراه جميلا.
هل تغيب المرأة؟
لم تغب المرأة عن مناقشات قضايا الجمال. في كتب الجماليات السياسية، يقال إن معايير الجمال في مجتمعاتنا تحمل رسائل عن السلطة، وعن النوع الاجتماعي، وعن الانتماء. إعادة تعريف الجمال من منظور تختار فيه المرأة كيف تعرف جمالها، وتقاوم التصنيفات، قد يكون من أبرز الطرق التي يقول بها الجمال اليوم إنه قادر على مواجهة العالم.
الجمال كأمل.. هل ينجو؟
قد نفقد العلاقة الأصيلة بالجمال إذا استمر العالم في جعل الصورة أسرع من المعنى. الأبحاث الحديثة تشير إلى أن الجمال يمكن أن يكون عامل تغيير في النظامين البيئي والاجتماعي ككل. علينا أن نستثمر الجمال في التعليم، وفي الساحات العامة، وأن نطرح أسئلة عن قيمة الأشياء والأحداث وأثرها.
الجمال لا يغير الواقع البشع، بل يغيرنا نحن، وعندما نتغير يمكننا أن نغير محيطنا، وربما العالم. في واقع تهيمن فيه الصواريخ الفرط صوتية، يعلمنا تذوق الجمال التمهل، ويدربنا على الإصغاء إلى التفاصيل والإحساس بالآخر.
القدرة الفعالة على مواجهة العدم والتشظي والقمع والسوق هي أن تختار تذوق الجمال وتكريس حضوره الآني في حياتك. الجمال يمنع العالم من أن يفقد معناه الحقيقي، أليس ذلك خلاصا؟













