تنتشر البيئات القاسية على الأرض، من أعماق المحيطات الحرارية إلى الأنهار الجليدية المتجمدة. ومع ذلك، فإن بيئة الفضاء الخارجي تتجاوز هذه الظروف في شدتها، حيث تواجه الكائنات الحية تغيرات حادة في درجات الحرارة، وانعدام الجاذبية، ومستويات عالية من الإشعاع. وقد أظهرت دراسة حديثة قدرة نوع من الطحالب على الصمود في هذه الظروف القاسية، مما يثير التساؤلات حول إمكانية الحياة خارج كوكب الأرض ويدفع حدود فهمنا لـتحمل الكائنات الحية.
أجرى علماء في جامعة هوكايدو اليابانية أبحاثًا مكثفة حول قدرة الكائنات الحية على البقاء في الفضاء، وركزوا على طحلب الأرض المنتشر (Viscomitriella patens). وقد أظهرت التجارب أن هذا الطحلب، بالإضافة إلى بعض النباتات الأخرى مثل رشاد أذن الفأر، يمتلك آليات فريدة تمكنه من مقاومة الظروف القاسية للفضاء الخارجي.
قدرات استثنائية: لماذا هذا الطحلب؟
تُعرف الطحالب بقدرتها الفائقة على التكيف مع البيئات المتطرفة، بما في ذلك الإشعاع القوي والجفاف الشديد. ويعتقد العلماء أن الطحالب كانت من أوائل الكائنات الحية التي استطاعت التأقلم مع الحياة على اليابسة. وقد اختار الباحثون طحلب الأرض المنتشر تحديدًا نظرًا لخصائصه الفريدة وبنيته البسيطة، بالإضافة إلى سهولة دراسة جينومه.
ينمو هذا الطحلب عادةً في البيئات الرطبة والمعتدلة حول المستنقعات والبرك في أوروبا وأمريكا الشمالية وشرق آسيا. لكنه يشتهر بقدرته على العيش في بيئات قاسية للغاية، مثل التندرا القطبية وجبال الهيمالايا المتجمدة وحتى صحراء وادي الموت. وقد دفع هذا التنوع في قدرات التحمل العلماء إلى التساؤل عما إذا كان بإمكانه البقاء على قيد الحياة في الفضاء.
اختبارات الصمود في ظروف الفضاء
قبل إرسال الطحلب إلى الفضاء، قام الباحثون بمحاكاة ظروفه القاسية على الأرض، بما في ذلك درجات الحرارة القصوى، والفراغ، ومستويات الإشعاع العالية. ركزت التحاليل على ثلاثة أنواع من خلايا الطحلب: البنى الفتية، والخلايا الجذعية الحاضنة، والأكياس البوغية. أظهرت النتائج أن الأكياس البوغية، التي تحتوي على الأبواغ المسؤولة عن التكاثر، كانت الأكثر مقاومة للإشعاع والظروف القاسية.
تم إرسال مئات الأكياس البوغية إلى محطة الفضاء الدولية، حيث تعرضت للإشعاع الشمسي والفراغ لمدة تزيد عن 9 أشهر. وعند عودتها إلى الأرض، أظهرت النتائج أن أكثر من 80% من الأبواغ بقيت حية وقادرة على الإنبات، مما يدل على قدرتها المذهلة على الصمود في الفضاء. هذا النجاح يمثل خطوة مهمة في فهم قدرة الكائنات الحية على التكيف مع البيئات الفضائية.
الآثار المترتبة على استكشاف الفضاء والزراعة
تشير هذه النتائج إلى أن الأبواغ يمكن أن تتحمل ظروف الفضاء لمدة طويلة تصل إلى 15 عامًا نظريًا، وفقًا لتقديرات الفريق البحثي. ويعتقد العلماء أن الغلاف الخارجي للأبواغ يلعب دورًا حاسمًا في حمايتها من الإشعاع والجفاف. هذه القدرة على التكيف مع الإشعاع قد تكون مفتاحًا لفهم كيفية تطور الحياة على الأرض في البداية، عندما كانت مستويات الإشعاع أعلى بكثير.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لهذه الدراسة آثار مهمة على استكشاف الفضاء والزراعة خارج الأرض. ففهم كيفية صمود الكائنات الحية في الفضاء يمكن أن يساعد في تطوير أنظمة بيئية مستدامة قادرة على دعم إنتاج الغذاء في البيئات الفضائية. كما يمكن أن يوفر رؤى قيمة حول كيفية حماية رواد الفضاء من الآثار الضارة للإشعاع.
الخطوات المستقبلية والبحث المستمر
يخطط الباحثون الآن لتحليل الجينات المسؤولة عن قدرة الأبواغ على تحمل بيئة الفضاء، بهدف تحديد الآليات الجزيئية التي تساهم في هذا الصمود. كما يهدفون إلى اختبار أنواع أخرى من النباتات والكائنات الحية لفهم أسرار بقائها في ظروف الفضاء القاسية. ويأملون في أن تساعد هذه الأبحاث في تطوير تقنيات جديدة لتهيئة بيئات صالحة للحياة على كواكب أخرى، مثل المريخ.
من المتوقع أن يتم نشر نتائج التحليل الجيني في غضون عامين. وفي الوقت الحالي، يركز الباحثون على تكرار التجارب وتوسيع نطاقها لضمان دقة النتائج. يبقى البحث في هذا المجال مستمرًا، مع التركيز على فهم أفضل لكيفية تفاعل الكائنات الحية مع بيئة الفضاء وتطوير استراتيجيات لضمان بقائها على قيد الحياة في هذه الظروف المتطرفة.













