في عالم يواجه أزمة طاقة متزايدة، تتجه الأبحاث نحو إيجاد طرق مبتكرة لاستعادة الطاقة المهدرة، وعلى رأسها استعادة الحرارة المهدرة. دراسة حديثة نشرت في دورية “كوميونيكيشنز فيزيكس” تثير الآمال في إمكانية تجاوز القيود الفيزيائية التقليدية وتحقيق كفاءة غير مسبوقة في استغلال الطاقة الحرارية.
توضح الدراسة أن كميات هائلة من الطاقة تضيع يوميًا على شكل حرارة من الأجهزة المختلفة، بدءًا من محركات السيارات وصولًا إلى الحواسيب والمصابيح. ويقدر الباحث أحمد قاسم، من جامعة فرجينيا كومنولث الأميركية، أن كمية الطاقة المهدرة سنويًا تعادل استهلاك 15 دولة!
تحديات استعادة الحرارة التقليدية
لطالما كانت مشكلة استعادة الحرارة معقدة بسبب ما يعرف بـ “حدّ كارنو”، وهو مبدأ فيزيائي يحدد أقصى كفاءة ممكنة لتحويل الحرارة إلى حركة مفيدة. ويوضح هذا المبدأ أن كفاءة أي محرك حراري تعتمد على الفرق بين درجة الحرارة الساخنة والباردة، مما يضع سقفًا على الأداء.
في المحركات التقليدية، مثل محركات السيارات، يتم فقدان جزء كبير من الطاقة كحرارة من خلال العادم والمبرد. تحاول الشركات المصنعة باستمرار زيادة الفرق بين درجات الحرارة لتحسين الكفاءة، لكن هذا يواجه تحديات تتعلق بالتبريد وتجنب ارتفاع درجة حرارة المحرك.
فيزياء الكم تفتح آفاقًا جديدة
تقدم الدراسة الجديدة نهجًا ثوريًا يعتمد على استخدام حالة كمومية خاصة تسمى سائل توموناغا-لوتينجر. هذا السائل يتميز بقدرته على تنظيم تدفق الطاقة بشكل استثنائي، على عكس المواد التقليدية حيث تنتشر الطاقة بشكل عشوائي.
في سائل توموناغا-لوتينجر، لا تتحول الطاقة إلى “ضوضاء حرارية” بسهولة، بل تبقى منظمة وقابلة للاستخدام. ويحدث هذا بسبب تفكك الإلكترون إلى جزأين، مما يحافظ على طبقات منتظمة من الطاقة.
كيف يعمل النظام الجديد؟
لتحويل الطاقة المنظمة إلى كهرباء، استخدم الباحثون نقطة كمومية تعمل كمرشح دقيق للطاقة. عندما تضرب الإلكترونات النقطة الكمومية، يتم التقاطها وإطلاقها بطاقة أقل، ويتحول الفرق في الطاقة إلى جهد كهربائي. هذه العملية تسمح باستعادة جزء أكبر من الحرارة المهدرة.
أظهرت التجارب أن النظام الجديد يمكن أن يزيد من الجهد الكهربائي الناتج عن الحرارة المهدرة بنسبة تصل إلى 160% مقارنة بالمواد التقليدية، مما يشير إلى إمكانية تجاوز حدّ كارنو التقليدي.
تطبيقات محتملة لتقنية استعادة الحرارة
إذا تم تطوير هذه التقنية على نطاق واسع، فإن تطبيقاتها ستكون متعددة. تشمل هذه التطبيقات تحسين كفاءة محركات السيارات، وتقليل الهدر الحراري في رقائق الحاسوب والأجهزة الإلكترونية، وزيادة كفاءة محطات توليد الطاقة الكهربائية. استعادة الحرارة المهدرة يمكن أن تساهم بشكل كبير في خفض استهلاك الطاقة العالمي وتقليل انبعاثات الكربون.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد هذه التقنية في تطوير مصادر طاقة جديدة ومستدامة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. وتعتبر هذه الخطوة مهمة في مواجهة تحديات تغير المناخ والحفاظ على البيئة.
الخطوات التالية والمستقبل
لا تزال هذه التقنية في مراحلها الأولية، ويتطلب تطويرها المزيد من البحث والتمويل. يجب على الباحثين العمل على تحسين كفاءة النظام وتقليل تكلفته، بالإضافة إلى إيجاد طرق لتصنيعه على نطاق واسع.
يقول توشيماسا فوجيساوا من معهد طوكيو للعلوم أن الخطوة التالية هي استكشاف إمكانية استخدام السائل الكمومي كمصدر طاقة في تصميمات جديدة. من المتوقع أن تشهد السنوات القادمة مزيدًا من التقدم في هذا المجال، وقد نشهد قريبًا ظهور أجهزة ومحركات تعتمد على هذه التقنية الثورية.
ما يثير الاهتمام هو أن هذه الدراسة لا تقدم تحسينًا تدريجيًا، بل تمثل اختراقًا مفاهيميًا قد يغير خريطة الطاقة العالمية.













