Published On 18/12/2025
|
آخر تحديث: 16:17 (توقيت مكة)
على سواحل جنوب أفريقيا، وفي برك ضحلة تتبدل ملوحتها شهرا بعد شهر، وتتعرض للجفاف والحرارة والبرد، توجد تكوينات صخرية تبدو للعين كأنها مجرد نتوءات طبقية، لكنها في الحقيقة “نُظم حيّة” تبنيها كائنات مجهرية منذ عصور سحيقة. هذه الكائنات الدقيقة تلعب دوراً حاسماً في عملية امتصاص الكربون من البيئة، الأمر الذي يثير اهتماماً متزايداً في سياق أزمة المناخ العالمية.
هذه التكوينات المدهشة تُسمّى “الميكروبيولايت”، وهي حصائر ميكروبية “تُحجّر” نفسها، أي تحول نشاطها الحيوي إلى طبقات صلبة من المعادن مع الزمن. وتُعد الميكروبيولايت من أقدم أشكال الحياة على الأرض، وتشكل جزءاً مهماً من النظم البيئية الساحلية.
ماصات الكربون
وفي دراسة جديدة، نشرت في دورية “نيتشر كومينيكيشنز” في الثامن عشر من ديسمبر 2025، ظهر للعلماء أن الميكروبيولايت في جنوب أفريقيا يمتص الكربون بكفاءة عالية ويحبسه في صورة كربونات الكالسيوم، وهو ترسيب معدني مستقر وطويل الأمد. هذه العملية الطبيعية لها دور كبير في الحد من انبعاثات الكربون، وهو تحدٍ عالمي يواجه البشرية.
بمعنى آخر، جزء من الكربون المذاب في الماء لا يبقى في دورة سريعة قد تعيده للغلاف الجوي، بل يُغلق عليه في حجر، بفضل هذه البكتيريا المتحجرة. وهذا يساهم في تنظيم دورة الكربون، ويقلل من تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو.
هذا مهم، فنحن نعرف أن ثاني أكسيد الكربون هو أهم الغازات التي تتسبب في أزمة الاحترار العالمي، ومن ثم فإن امتصاصه سيساعد لا شك في علاج تلك المشكلة. تشير التقديرات إلى أن أي زيادة في امتصاص الكربون يمكن أن تساعد في إبطاء وتيرة تغير المناخ.
الفكرة الأساسية تشبه ما تفعله الشعاب المرجانية، ولكن على يد ميكروبات، حيث تمتص هذه الكائنات الدقيقة الكربون وترسب معادن، فتتراكم طبقات متتابعة. هذه العملية تختلف عن التخزين البيولوجي للكربون في الغابات، حيث أن الكربون هنا يُثبت بشكل دائم في الصخور.
![Brazilwood, the national tree of Brazil, is endemic to the Atlantic Forest, which faces threats from deforestation and climate change [File: Bruna Prado/AP Photo]](https://saudiwadi.com/wp-content/uploads/2025/12/ss-3-1763971960.jpg)
ليلا ونهارا
الجديد هنا أن الفريق البحثي ربط معدلات امتصاص الكربون والترسيب بما لدى المجتمع الميكروبي من قدرات جينية ووظيفية، أي أنهم لم يكتفوا بقياس كم الامتصاص، بل حاولوا فهم كيف يحدث ومن يقوم به داخل هذا المجتمع المعقد. هذا الفهم المتعمق يمكن أن يساعد في تطوير استراتيجيات لتعزيز قدرة الميكروبيولايت على امتصاص الكربون.
والأكثر إدهاشا أن الامتصاص لا يعتمد فقط على التمثيل الضوئي، حيث تشير النتائج إلى أن التمثيل الضوئي يدعمه أيضا آليات لا تعتمد على الضوء، مما يعني أن “مصنع حبس الكربون” قد يستمر ليلا ونهارا. هذا الاكتشاف يشير إلى أن الميكروبيولايت يمكن أن تكون ماصة كربون فعالة حتى في الظروف المظلمة.
بحسب تقديرات الدراسة، يمكن لهذه الميكروبيولايت أن تمتص ما يعادل 9 إلى 16 كيلوغراما من ثاني أكسيد الكربون سنويا لكل متر مربع، وهو رقم لافت. هذا يشير إلى أن الميكروبيولايت لديها القدرة على لعب دور كبير في التخفيف من آثار تغير المناخ.
ويشبه الباحثون من “مختبرات بيغيلو لعلوم المحيطات”، ذلك بأن مساحة بحجم ملعب تنس من هذه التكوينات قد تعادل امتصاص نحو 3 أفدنة من الغابة سنويا، لثاني أكسيد الكربون. ويدعو هذا إلى دراسة إمكانية استغلال هذه النظم الطبيعية في جهود مكافحة تغير المناخ.
قيمة علمية
الدراسة تفتح الباب أمام فهم أعمق لدور الميكروبيولايت في دورة الكربون، وإمكانية استغلال هذه النظم الطبيعية في جهود التخفيف من تغير المناخ. ومن المتوقع أن تقوم فرق بحثية أخرى بمتابعة هذه الدراسة، وتقييم دور الميكروبيولايت في مناطق أخرى من العالم.
قد تشمل الخطوات التالية دراسة العوامل البيئية التي تؤثر على امتصاص الكربون في الميكروبيولايت، وتطوير تقنيات لتعزيز هذه العملية. ولكن، يجب التأكيد على أن هذه الجهود تتطلب المزيد من البحث والتمويل، وأن النتائج النهائية قد لا تكون متاحة إلا بعد سنوات.













