منذ اكتشاف بوزون هيغز عام 2012، أصبح مفهوم كتلة الجسيمات محوراً رئيسياً في فيزياء الجسيمات. لكن دراسة حديثة أثارت تساؤلات حول ما إذا كان حقل هيغز هو المصدر الوحيد لهذه الخاصية الأساسية، مقترحة أن “هندسة الفضاء” نفسها قد تلعب دوراً حاسماً في تحديد كتلة الجسيمات.
نشر فريق دولي من الباحثين نتائج هذه الدراسة الهامة في دورية “نيوكلار فيزكس بي”، حيث يقدمون نموذجاً جديداً يربط بين أبعاد الفضاء الإضافية والكتلة. هذا الاكتشاف قد يغير فهمنا للكون والطاقة المظلمة، ويقدم تفسيراً مكملاً للنموذج القياسي الحالي.
هندسة الفضاء وعلاقتها بكتلة الجسيمات
النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات يشرح كيف تكتسب بعض الجسيمات، مثل بوزونات “دابليو” و”زد”، كتلتها من خلال التفاعل مع حقل هيغز. هذا الحقل موجود في كل مكان في الكون، ويعمل كنوع من “المقاومة” التي تبطئ حركة الجسيمات، مما يجعلها تبدو وكأنها تمتلك كتلة.
ومع ذلك، يقترح الباحثون آلية بديلة. فهم يفترضون أن الكون قد يحتوي على أبعاد إضافية مخفية، وأن هذه الأبعاد ليست مجرد إضافة بسيطة، بل يمكن أن تكون ملتفة ومشوهة. هذا التشوه، أو “العزم الهندسي”، يمكن أن يؤثر على كيفية تحرك الجسيمات في الفضاء، ويجبرها على “الشعور” بكتلة حتى لو لم تتفاعل مع حقل هيغز بشكل مباشر.
الأبعاد الإضافية والثابت الكوني
بمعنى آخر، يرى هذا النموذج الجديد أن الكتلة ليست مجرد خاصية داخلية للجسيمات، بل هي نتيجة لكيفية تفاعل هذه الجسيمات مع هندسة الفضاء نفسه. هذا يشبه إلى حد ما فكرة أن مقاومة الحركة على سطح كوكب ما تعتمد ليس فقط على وزنك، بل أيضاً على شكل هذا السطح.
الأمر المثير للاهتمام هو أن الحسابات التي استند إليها الباحثون قدمت نتائج قريبة جداً من القيم المعروفة لكتل بوزونات “دابليو” و”زد”، مما يعزز مصداقية الفرضية. بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسة إلى أن هذه الأبعاد الإضافية قد تكون مرتبطة أيضاً بالثابت الكوني، وهو عامل مسؤول عن تسارع تمدد الكون.
ربط هندسة الأبعاد العليا بالثابت الكوني يعني أن جزءاً مما نعتبره “الطاقة المظلمة” قد يكون في الواقع نتيجة لشكل الفضاء نفسه، وليس مجرد طاقة غامضة ومليئة بالفراغ. وهو ما يوسع فهمنا للكوسمولوجيا بشكل كبير.
هل يعني هذا أن بوزون هيغز فقد أهميته؟ الإجابة هي لا. يؤكد الباحثون أن بوزون هيغز لا يزال موجوداً ويلعب دوراً ضرورياً في النموذج القياسي. لكنهم يرون أن اكتشاف بوزون هيغز قد يكون مجرد جزء من الصورة الكاملة، وأن هناك “آلية ثانية” تعمل جنباً إلى جنب مع حقل هيغز لتحديد كتلة الجسيمات.
الآثار المستقبلية والخطوات القادمة
هذه الدراسة تقدم منظوراً جديداً ومثيراً حول أصل الكتلة في الكون، وتفتح الباب أمام المزيد من الأبحاث في مجال فيزياء الأبعاد الإضافية وعلاقتها بالقوى الأساسية. هذا النموذج لا يحلل الجسيمات الأولية فقط، بل يقدم رؤية جديدة للكون بأسره.
الخطوة التالية للباحثين هي تطوير هذا النموذج بشكل أكبر، وإجراء المزيد من الحسابات والتجارب للتحقق من صحته. من المرجح أن تتطلب هذه الجهود التعاون بين الفيزيائيين والنظميين وعلماء الفلك، واستخدام أحدث التقنيات والأدوات المتاحة. من المتوقع نشر نتائج أولية لهذه التحقيقات في غضون عامين.
على الرغم من أن هذه الفرضية لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أنها تمثل تطوراً مهماً في فهمنا للكون، وقد تؤدي إلى اكتشافات جديدة في المستقبل القريب. وبالطبع، فإن التأكد من صحة هذه الفرضية يتطلب المزيد من الأدلة التجريبية، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً للباحثين في هذا المجال. الكون المادي يحمل في طياته العديد من الأسرار التي ما زلنا نسعى لفهمها.













