قد يبدو الأمر مستحيلاً، لكن تحليلاً جينومياً واسع النطاق أظهر أن الكلاب الحديثة تحمل آثاراً وراثية من الذئاب الرمادية، مما يثير تساؤلات حول تاريخ تدجين الكلاب وعلاقتها المستمرة بأسلافها البرية. هذه النتائج، التي نشرت مؤخراً، تلقي الضوء على عملية تطورية أكثر تعقيداً مما كان يعتقد سابقاً، وتؤكد أن العلاقة بين الكلاب والذئاب لم تنقطع تماماً بعد التدجين.
وفقاً للدراسة، التي أجريت على أكثر من 2700 جينوم لكلاب وذئاب، فإن نسبة كبيرة من الكلاب، وخاصة تلك التي تعيش بالقرب من البشر بشكل تقليدي، تحمل مقاطع من الحمض النووي تعود إلى الذئاب. هذا الاكتشاف يغير فهمنا لكيفية تطور الكلاب من الذئاب البرية، ويشير إلى أن التهجين بينهما استمر لفترة طويلة بعد بدء عملية التدجين.
تدجين الكلاب: قصة أكثر تعقيداً مما كنا نظن
اعتمدت الدراسة على تجميع وتحليل بيانات جينومية شاملة من كلاب وذئاب من مناطق جغرافية مختلفة وعلى مدى زمني واسع. ركز الباحثون على تحديد المقاطع الجينية المشتركة بين الكلاب والذئاب، وتقييم مدى انتشارها في مختلف السلالات. أظهرت النتائج أن حوالي 64.1% من كلاب السلالات المسجلة تحمل كمية قابلة للكشف من الحمض النووي الخاص بالذئب.
الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن هذه النسبة كانت أعلى بكثير في “كلاب القرى”، وهي الكلاب التي تعيش بالقرب من البشر دون أن تكون جزءاً من سلالات معترف بها. في الواقع، أظهر تحليل جميع عينات كلاب القرى وجود آثار للذئب، مما يشير إلى أن التهجين المستمر كان ضرورياً لتكيف هذه الكلاب مع العيش بالقرب من البشر.
أثر التهجين على الصفات الوراثية
تشير الدراسة إلى أن بعض المقاطع الجينية الموروثة من الذئاب مرتبطة بصفات وظيفية مهمة لدى الكلاب، مثل حاسة الشم القوية. هذا يفسر سبب وجود هذه المقاطع بشكل متكرر في كلاب الصيد والرعي، التي تعتمد بشكل كبير على حاسة الشم في عملها. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون للتهجين دور في تعزيز قدرة الكلاب على التكيف مع البيئات المتغيرة.
في حالات “التهجين المتعمد” التي يمارسها مربو الكلاب لإنتاج سلالات ذات صفات محددة، بلغت نسب إرث الذئب بين 23% و 40%. هذا يؤكد أن التهجين يمكن أن يكون أداة قوية لتعديل الصفات الوراثية للكلاب، ولكنه يثير أيضاً تساؤلات حول الآثار الأخلاقية والبيئية لهذه الممارسة.
ومع ذلك، يوضح الباحثون أن هذا لا يعني أن الكلاب الحديثة هي مجرد ذئاب مُدجَّنة. عملية التدجين أدت إلى تغييرات كبيرة في التركيب الجيني للكلاب، مما أدى إلى ظهور صفات جديدة مختلفة عن تلك الموجودة في الذئاب. لكن الدراسة تؤكد أن العلاقة بين الكلاب والذئاب لم تنتهِ تماماً، وأن هناك تبادلاً جينياً مستمراً بينهما.
تضيف هذه الدراسة طبقة جديدة من الفهم لتاريخ تطور الكلاب، وتوضح أن عملية التدجين كانت أكثر ديناميكية وتعقيداً مما كان يعتقد سابقاً. كما أنها تسلط الضوء على أهمية الحفاظ على التنوع الجيني للكلاب والذئاب، حيث أن هذا التنوع قد يكون ضرورياً لتمكينها من التكيف مع التحديات المستقبلية. التحليل الجيني يوفر أيضاً رؤى حول سلوك الكلاب وقدراتها المختلفة.
في الختام، تشير الأبحاث الحالية إلى أن دراسة جينوم الكلاب والذئاب ستستمر في الكشف عن تفاصيل جديدة حول تاريخهم المشترك. من المتوقع أن يتم إجراء المزيد من الدراسات للتحقيق في الآثار الوظيفية للمقاطع الجينية الموروثة من الذئاب، وتحديد كيفية مساهمتها في التكيف السلوكي والجسدي للكلاب. سيظل فهم هذه العملية التطورية المتشابكة أمراً بالغ الأهمية للباحثين ومحبي الكلاب على حد سواء.













