في هذه الزاوية الثقافية “نصوص في الذاكرة”، تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة.
وتختار هذه النافذة مجموعة منتقاة من نصوص الأدب والفكر والتاريخ، التراثية والمعاصرة، في مجالات ثقافية متنوعة، وتكتفي بمقدمة قصيرة تفتح الباب بعدها للنصوص ذاتها لتشرق معانيها بلا حجاب، وقد أضاف المحرر إليها -أحيانا- هوامش شارحة موجزة.
وفي هذه الحلقة نكمل مع الأديب واللغوي والصحفي والمترجم والمحقق الموسوعي والرحالة أحمد فارس الشدياق رحلاته الفكرية وأسفاره، في كتاب آخر له غير “الساق على الساق في ما هو الفارياق” الموصوف بأنه أول رواية عربية حديثة.
والشدياق (1805-1887) -الذي ولد لأسرة مارونية لبنانية وتحوّل للبروتستانتية ثم للإسلام في كهولته- غادر لبنان إلى مصر ومنها إلى مالطا مطلع العشرينيات من عمره، ثم عاد ثانية إلى مصر حيث أقام ما يقرب من 6 أعوام (بين عامي 1828 و1834)، وعمل لفترة في جريدة الوقائع المصرية، ثم انتقل إلى مالطا مجددا حيث عمل مع مبشرين بروتستانت في ترجمة وتصحيح الكتب العربية، وسافر لبلاد الشام وتونس وإيطاليا وإنجلترا وباريس ولندن وتونس، التي أشهر فيها إسلامه، والأستانة (إسطنبول) التي توفي فيها وأصدر فيها جريدته السياسية الأسبوعية عام 1861.
في رحلته الأوروبية الطويلة “كشف المُخبَّا عن فنون أوروبا” (الذي أنهاه عام 1857م) لا يحاول أحمد فارس الشدياق وصف أحوال الاجتماع والعمران الأوروبية فحسب وإنما يجتهد في الإجابة عن سؤال تقدم الغرب وتأخر العرب، فإلى مقتطفات من كتابه:
ظل خاطري حائما على مورد التأليف، وقلبي هائما بسفْرٍ طريف، إلى أن مكنتني التقادير الممكنة، بعد لبثي على تلك الصخرة الدرنة، نحو 14 سنة، من السفر إلى بلاد الإنكليز المتمدنة، فاغتنمت هذه الفرصة عجلا، وظننت أني أدركت أملا، وعولت على أن أشفع تأليف الواسطة برحلة يعظم وقعها، ويعم نفعها، فصرت أقيد ما عن لي من الخواطر في وصفهم وسنح، وتارة أنقل من الكتب ما ليس فيه للفكر مسرح، وللطرف إليه مطمح، فإن شؤونهم متشعبة، وأحوالهم مستغربة، وأنحاءهم شتى، ومقاصدهم تستغرق وصفا ونعتا، ويعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب، وأدركت فيها من الرغائب، كنت أبدا منغص العيش مكدره، كمن فقد وطره، ولزمته معسره، لا يروقني نضار ولا نضرة، ولا نعمة ولا مسرة، ولا طرب ولا لهو، ولا حسن ولا زهو، لما أني كنت دائم التفكر في خلو بلادنا عما عندهم من التمدن، والبراعة والتفنن، ثم تعرض لي عوارض من السلوان، بأن أهل بلادنا قد اختصوا بأخلاق حسان، وكرم يغطي العيوب ويستر ما شان، ولا سيما الغيرة على الحرم، وصون العرض عما في هذا الصوب يذم، ثم أعود إلى التفكر في المصالح المدنية، والأسباب المعاشية، وانتشار المعارف العمومية، وإلى إتقان الصنائع، وتعميم الفوائد والمنافع، فيجفل ذلك السلوان، وأعود إلى الأشجان.
وليكن معلوما عند القاري، والسامع والداري، أني في كل ما وصفت به الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من أهل أوروبا، لم يمل بي هوى ولا غرض بغضا أو حبا؛ إذ ليس لي حذْل مع أحد منهم ولا ضلع، ولا انحراف ولا ميل ولا ضر ولا نفع، وإنما رويت عنهم ما رويت، وحكيت ما حكيت، بحسب ما ظهر لي أنه الصواب، فلا ينبغي أن يحمل قولي على ضغن أو إغضاب، وأعوذ بالله من أن أبخس الناس أشياءهم، فأتعمد القول فيما شانهم وساءهم، إلا أنه لا ينكر أن الإنسان محل النقص والمعيب، وأنه قل من ينظر إلى نفسه بعين المصيب، وكذا كنت أقول للإنكليز، فلم يكن أحد منهم ينكر قولي أو ينسبه إلى التعجيز، ثم إني بعد الفراغ من تحرير الرحلة المشار إليها عرضت عوارض كثيرة، وأحوال خطيرة، كحرب أميركا وبولاند مثلا، وكزيادة في عدد سكان الممالك أو في أعمالهم مما استعظمه الناس وصار لهم شغلا، من جملة ذلك ما جرى من الممالك الإسلامية من التحسين والتنظيم، والترتيب والتتميم، إلا أني رأيت إيداعها في الرحلة نصبا مستأنفا، وشغلا لا ينتهي ولا يستوفى، فصرفت عنه صفحا، وصدفت كشْحا؛ إذ حوادث الدهر، أكثر من أن يحصرها ذكر، أو يحيط بها زبْر.
أما لندرة (لندن) فإن كل ما فيها إنما جعل للتمتع به داخل الديار، وأما باريس فإن طيب عيشها إنما هو في الأسواق والشوارع، وإن الأولى تحير الناظر باحتتان حالاتها، وبكثرة ما فيها من الدكاكين، وبترفة الأعيان والعظماء وإسرافهم، وإن الثانية تسحر بتفنن شؤونها واختلاف المشاهد فيها، وبما يتنعم به أهلها من العيش الذي يحكي عيش النور -الجنكنه- المتنقلين من حال إلى حال، وفي الجملة فإن لندرة تحكي خلية العسل، وباريس تحكي منهلا عذابا لكل وارد، وما أحسب جمود الإنكليز الذي وصفهم به أهل باريس إلا من هذه الحالة التي لا تفاوت فيها.
وقال آخر: ليس في لندرة مطاعم أنيقة ومحال قهوة فاخرة كما في باريس، فيلزم الغريب أن يأكل في المنزل الذي يسكنه أو في بيوت الأكل، وهي عبارة عن مواضع مظلمة لا تأنق في فرشها ولا في مطابخها، وإذا دخلت أحدها مما يتردد إليه وجوه الناس أحضر لك الخادم في وقت الغداء 5 صحاف مغطاة بأغطية مفضضة، فتحسب أن فيها شيئا يفتح منك اللهى، فإذا كشفت عن إحداها ظهر لك الشواء، ويليه البطاطة، ثم الخلر على حدتهما، ثم خسة، وفي الخامسة زبدة مذابة مع آنية الأباريز، وإذا شئت التفنن أحضروا لك سمكا مسلوقا، أما الشراب فالجعة؛ لأنك لو أردت أن تشرب الخمر لزم أن يكون دخلك في العام دخل أمير في غيرها.
قلت: قد أشرت في وصف باريس إلى بعض ما بينها وبين لندرة من الفرق في السكنى والمعيشة، والآن أستوفي ذلك بناء على ما قال الفرنساوي من أن طيب العيش في لندرة إنما هو داخل الأبواب، وفي باريس بخلاف ذلك، فأقول: إن أهل الاستطاعة في لندرة كالتجار وغيرهم، يستأجرون بيوتا ويستقلون بها، وذلك لصغرها خلافا لديار باريس، فلهذا كان صاحب العيلة يؤثر التنعم في بيته مع أهله على الخروج، أما الغرباء الذين ينزلون في الديار فيكون لأحدهم حجرة أو حجرتان، فيمكنهم أن ينالوا طعامهم صبحا ومساء في منزلهم، وذلك بأن يشتروا هم ما يريدون أكله، ويأمروا الخادمة بطبخه ويعطوها شيئا زهيدا في مقابلة خدمتها، وذلك أولى من أنهم يأكلون في المطاعم، بل هو أنظف وأرخص، وفي هذه الخطة تفضل لندرة باريس، فإن الغرباء في هذه لا ينزلون إلا في منازل كبيرة مشاعة، فيضطرون وقت الأكل إلى الخروج إلى أحد المطاعم، فإن الأكل في المنازل غالٍ جدا.
وهناك مزية أخرى، وهي أن النزيل في لندرة يستأجر الحجرة في الأسبوع، وفي باريس يستأجرها مشاهرة، وإن كان مياومة لزم أن يدفع الضعف ضعفين، وأيضا فإن صاحب الدار في لندرة يعطي النزيل مفتاح داره ليمكنه أن يدخل ويخرج أيان شاء، وفي باريس لا بد من قرع الباب بعد نصف الليل ليفتح له البواب، غير أن النزيل في ديار لندرة لا يمكنه أن يخلو بالنساء في حجرته، وفي باريس لا حرج في ذلك، فإن طلوع المرأة إلى حجرة النزيل فيها أهون من طلوع رغيف الخبز، كما أن طلوع المرأة في لندرة إليه أصعب من طلوع الفرن بناره، وهذا شذوذ عن الأصل المتقدم إن قلنا بأنه من طيب العيش، إلا أن أكثر المنازل هنا يقوم بخدمتها نساء حسان يغنين النزيل عن الخروج، ولأصحاب هذه المنازل غالبا عادة ذميمة وهي أنهم يستولون على مفاتيح عديدة متنوعة يفتحون بها صناديق السكان، حتى إذا علموا أن ليس في صناديقهم ما يقوم بأجرة المسكن أنذروهم الخروج.
وهناك طريقة أخرى للسكنى في كلتا المدينتين، وهي أن من شاء أن يمكث طويلا يستأجر حجرة أو حجرتين في دار من غير أثاث ويؤثثهما كما أحب، ولكن يلزمه في لندرة أن يفتح الباب لقاصده، وينور له في الدرج، وفي باريس لا يلزمه ذلك، هذا؛ ولما كان أرباب الحكومة في لندرة لا يعنون بما فيه تحسين المدن وتنظيم ديارها، كانت ديار لندرة بالنسبة إلى ديار باريس حقيرة جدا؛ إذ كل إنسان يبني داره كما تقتضيه حاله، فمنها ما كان مشتملا على طبقتين فقط، ومنها على 3 طبقات من دون مراعاة رونقها وهندمتها ومساواتها، أو يقال: إن الديار هنا لما كانت عرضة للحريق كان هم صاحب الملك مجرد الانتفاع بالبناء دون الزخرفة، وناهيك أن في لندرة 2260 دارا مشرفة على السقوط، وما عدا ذلك فإن من يكون قاعدا في حجرة يرى مبلطها يهتز به كلما مرت عجلة من تحتها، فمحاسن لندرة كلها مقصورة على الحوانيت، فإذا رفعت نظرك ما فوقها قابلك سواد الحيطان وحقارة الطوب وتفاوت الطيقان وخساسة المداخن البارزة من السطوح من الخزف وضعة البناء وما أشبه ذلك.
وأعظم ما يشعر الناظر بهذا ما إذا قدم من باريس، فإنه يرى الفرق عظيما جدا وخصوصا إذا اتفق قدومه في يوم الأحد حين تكون الحوانيت مغلقة، فيحسب نفسه أنه في قرية صغيرة، إلا أن في داخل الديار هنا مرافق لا توجد في باريس، منها حسن المواقد، وقد سبقت الإشارة إليه، وكونها مشتملة على صهاريج للماء على طيبه، وفي باريس يلزم الساكن أن يشتري الماء من السقائين على رداءته، ومنها قلة درجها وذلك نتيجة كونها غير شاهقة، ولعل صاحب العيلة إذا استأجر دارا من بابها يهْنئه العيش هنا أكثر مما يهنئه في باريس على كثرة ما يوجد في هذه من البدائع، فإن الغيور على عرضه لا يهون عليه إذا كان نازلا في الدرج ليخرج إلى محترفه أن يرى آخر صاعدا محاورا له، ولهذا تقول الإنكليز: إن هناءهم جوي، وإن ديارهم أدعى إلى السكون والهناء من ديار غيرهم، وإذا سكن هنا في الدار 2 أو 3 واتفق تلاقيهما في الدرج فما أحد يكلم صاحبه، وإذا زاره أخوه أو أخته وأطالا المكث عنده إلى نصف الليل فما يدعوهما إلى المبيت عنده.
أما قوله باحْتتان حالاتها وبكثرة دكاكينها، وبترفه الأعيان والعظماء فيها، فاحتتان حالاتها هو كون جميع الأزمنة والأمكنة فيها متساوية، أما في الأزمنة فليس عند الإنكليز في أيام السنة كلها يوم للحظ واللهو، فلا تعرف فيها رأس السنة من ذنبها، وليس عندهم أيام للبطالة ما عدا أيام الآحاد، سوى عيد الميلاد، ويوم الجمعة الكبيرة، ولكن يوم البطالة هنا هو يوم الانقباض والاكتئاب؛ إذ لا ترى شيئا يقر العين، فقد أسلفنا أن جميع الحوانيت تكون يومئذ مغلقة.
ومن العجب هنا أنه يؤذن لباعة التبغ في فتح دكاكينهم يوم الأحد، ولا يؤذن لباعة الخبز واللحم، فكأن التبغ ألزم للمعيشة من غيره، ثم لا مثابة للناس ينبسطون بها سوى التردد على تلك الغياض وهي خالية من المطاعم والمشارب وآلات الطرب على قلة ما فيها من المقاعد، وهي في الغالب بعيدة عن سكنى العامة والوسط، وإنما هي مجعولة لحظ الكبراء القاطنين في الديار المجاورة لها، فإن كل شيء هنا معني به اسم العلية، وقد مرت الإشارة إلى هذا، نعم إن في صباح الأحد في لندرة لذة لا تقدر ولا تنظر بالنسبة إلى نحس الأيام الأخر، وهي قلة قرقعة العجلات وسائر المراكب، فقد كنت أحسب نفسي في صباح كل أحد أني ساكن في الريف، فأما في سائر الأيام فإن توالي هذه القرقعة داهية من أعظم الدواهي، فمن لم يتعود عليها لن يهنئه نوم ولا قعود، ولن يمكنه أن يجمع أفكاره في رأسه، وإذا مشى اثنان في الطريق لزم المتكلم أن يصرخ بأعلى صوته ليسمعه الآخر، فأعوذ بالله من ذلك.
فأما كثرة الحوانيت فقد تقدم ذكرها في أول الكلام على لندرة، وبقي هنا أن أقول: إنك في جميع حوانيت لندرة تجد ما يلزم للملبوس والمفروش ناجزا عتيدا، فإذا دخلت مثلا حانوت إسكاف وجدت عنده عشرة آلاف زوج نعال معرضة للبيع، فاخترت منها ما شئت، وقس على ذلك سائر أصناف الملبوس، ومن شاء أن يفرش صرحا في 3 ساعات، وجد كل ما يخطر بباله من الأدوات والأواني، ونحو ذلك حوانيت باريس، فأين هذا من البلاد التي لا تجد فيها حاجتك إلا بعد أن توصي عليها، فإذا حضرت وجدتها على غير المراد، فنغصك ذلك وأفضى بك إلى القيل والقال؟!
وأعظم طريق في هذه المدينة هي ريجنت سركوس، ويذكر غالبا باسم ريجنت ستريت، وهو على خط منحنٍ نحو نصف دائرة طوله 1730 ذراعا، وهو يشتمل على دكاكين فاخرة بهية، أكثرها مشرف بشعار الملك، وذلك أن الملكة إذا اشترت شيئا من صاحب الدكان، ساغ له أن يضع عليه صورة الأسد ووحيد القرن وأدى إلى الميري شيئا عليه في كل سنة.
وثم ترى الثياب الفاخرة من كل صنف ولون ومن كل صقع ومكان، وقد يكون طول لوح الزجاج في عرض الحانوت نحو 6 أذرع فأكثر، وعرضه نحو ذراعين، فيكون العرض كله من أعلاه إلى أسفله لوحين أو 3، وثمن اللوح نحو 10 ليرات، وديار هذه الطريق مبيضة الخارج، أو يقال نصفها أبيض ونصفها أسود.
منازل الأعيان والأوباش وجحيم لندرة
وأما قوله بترفه الأعيان والعظماء وإسرافهم، فقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على أخلاقهم وأحوالهم، وإنما نقول هنا: إن هؤلاء الأماجد يسكنون في حارات معلومة من المدينة فرارا من الزحام ومن اختلاطهم بالأوباش، فترى بقعة فسيحة عظيمة في لندرة ليس فيها سوى ديار متصافة متصاقبة، وهي بالنظر إلى وسط المدينة موحشة؛ إذ ليس فيها حوانيت ولا مطاعم ولا ملاهٍ، لكنها نظيفة سالمة عن تكاثف الأوحال وضغط السائرين وقرقعة العجلات، ومع ما هم فيه من البحبحة فيها والنعيم والانفراد، فلا بد وأن يكون لكل منهم دار في الخلاء يسكنها في الصيف، ففي هذا الصقع الجليل تسطع أنوار السعادة من أبراجهم العلوية، وهناك ترى الخدم والحشم والخيل المطهمة والعواجل النفيسة، وهناك تميد الموائد بما عليها من الأطعمة الفاخرة المجلوبة من جميع البلدان، وهناك تتيه الكلاب على كثير من بني آدم ممن يتضورون جوعًا ويهلكون من الوسخ والبرد والعري ومن أكل اللحوم المنتنة في أزقة لندرة القذرة، فليس بين الجنة والجحيم في هذه المدينة بعد ما بين الجنة والجحيم في الآخرة.
وهاك مثالا على سقر لندرة، قال في بعض الصحف: إن 180 نفسا ما بين رجل وامرأة وولد يسكنون في 34 حجرة، وفي أخبار الكون كان يمكث في حجرة واحدة من 14 نفسا إلى 20 ليلا ونهارا، وكان يسكن في حجرة أخرى رجلان مع زوجيهما وأرملتان و3 بنات، وعزب و3 أولاد، فجملتهم 14 نفسا قد جعلوا أنفسهم عيلة عيلة كل عيلة تبوأت زاوية من الحجرة، وفي موضع آخر يسمى ساحة فلتشر حجرتان لا تزيدان على 7 أقدام عرضا في 10 طولا، وقد اشتملتا على 28 نفسا، ما أحد منهم يعرف القراءة، وليس تحتهم وطاء سوى التبن، إلا واحدا منهم، ولا غطاء لهم في الليل سوى ثيابهم التي يلبسونها في النهار، ومع ذلك فإن هذين المحلين إذا قيسا بغيرهما من البيوت المجاورة لهما كان لهما حرمة واعتبار، فإنه وجد فيها 208 أولاد قد أدركوا، ولم يدخل منهم المكتب سوى 38 فقط، وهم غارقون في الفساد والخساسة والقذر والوباء، وفي هي هوبرن 30 بيتا، يسكن فيها 133 عيلة، كل 3 عيال أو 4 في حجرة واحدة، وقد تناهوا في السكر والسفاهة، وفي كل نوع من الرذائل.
وكثيرا ما ترى النساء يمشين في الشتاء حافيات ويلتقطن الجذور وفتات الخبز، وغير مرة رأيت رجلا على ذراعه طفل وامرأته بجانبه صفراء منجردة على عتبة إحدى الديار في أشد ليالي الشتاء بردا، وفي كل سنة يبقى ألوف من ذوي الحرف معطلين، ففي سنة 1849 كان 1400 خياط و900 إسكاف بلا عمل، وكان 1700 إسكاف يعملون بنصف الأجرة، وكذا الصاغة وصناع الجلود وقس على ذلك.
وفي لندرة 2260 دارا مشرفة على السقوط، والحاصل أنه لا فقير أشقى من فقير لندرة، كما أنه لا غني أترف من غنيها، وكما أن طرف لندرة من جهة الشمال موسوم بحضرة الكبراء، كذلك كان طرفها الجنوبي مختصّا بأهل الضعة والخمول، فلا ترى هناك شيئا يعجبك غير حسن النساء، فإن الله تعالى جعل لهن هذا النصيب عاما.
جهل الإنكليز بصنعة الطبخ
وأما قول الآخر: إنه ليس في لندرة مطاعم أنيقة … إلخ، فهو في محله، إلا أنه لم يُذكر سبب ذلك، وهو جهل الإنكليز بصنعة الطبخ، أما في البيوت فيمكن للواحد أن يعتذر عنهم بقوله: إنهم لا يتأنقون في الطبخ حرصا على الوقت أن يضيع في الحشو والتكبيب وما أشبه ذلك، إلا أنه لا يمكن الاعتذار عن أصحاب المطاعم العمومية الذين لا شغل لهم إلا إطعام الناس، وما عدا ذلك فإن المتقدم لم يذكر أنه لا شيء في لندرة مما يُؤكل أو يُشرب إلا وهو مغشوش مخلوط مشوب.
أَوَليس من العار على أهل هذه المدينة مع كونهم أغنى الناس وأقدرهم وأتجرهم أن يرخصوا لواحد من الأجانب في أن يفتح دكانا في أعظم الطرق ويبيع فيه نحو الجبن ولحم الخنزير والخردل واللبن، ولآخر في أن يبيع المثلوج والحلواء، ولآخر في أن يبيع الخل والزيت، ولآخر في أن يفتح محل قهوة تغني فيه نساء بلده ونحو ذلك مما يمكن لكل أحد أن يصنعه؟ فهل لهذا من تأويل آخر سوى أنكم يا أهل لندرة خرق حمق أو غشاشون غبانون؟
وفي الواقع فإن كل شيء يصنعه أهل فرنسا هو مفخرة للإنكليز، فإن الحرير الفرنساوي للستات من الإنكليز نصف جمالهن، والنصف الآخر من الشريط والجوارب والكفوف والقيطان ونحوه، ونصف أدبهن هو التكلم باللغة الفرنساوية، والنصف الثاني العزف على البيانو، وطباخو أمراء الإنكليز إنما هم فرنسيس، وكذا شرابهم وجل تحفهم، وأهل الحوانيت يكتبون على كل شيء أنه فرنساوي كما مَرَّ ذكر ذلك، فما معنى اتساع لندرة إذن وكثرة دكاكينها وسعة طرقاتها وتعدد مراكبها وزحامها وضجيجها وجلبتها، وليس فيها من يحسن عمل الخردل وليس في مطاعمها مرقة في الشتاء، ولا سلاطة في الصيف، ولا أرز ولا عدس ولا حمص ولا فول ولا مقر، وإنما هو الشواء والبطاطس أو شيء من البقل مسلوق سلقا؟
ومن الغريب أنهم إذا طبخوا البطاطس مع اللحم سموها إداما إرلانديّا وملؤوه من الفلفل والأباريز حتى يحرق اللسان، وإذا جلس أحد فيها للغداء رأى بينه وبين جيرانه حاجزا من خشب حتى لا يقع التعارف بينهم، وهو أشبه بحاجز الحيوانات التي يجمعونها في بستان النباتات، وترى كلًّا منهم قد جلس للطعام وبيده صحيفة أخبار يطالعها، وإذا أراد أخذ شيء من بين يديك تلقفه من غير أن يستأذنك فيه خلافا لما تفعل الفرنسيس وغيرهم، على أن كثيرا من هذه المطاعم يأكل الناس فيها وهم وقوف، فكأنما هم جماعة يهود يأكلون خروف الفصح.
فأما محال القهوة فأكثرها مجتمع الأرذال، فترى فيها واحدا راقدا وآخر سكران، وآخر وسخا، وإذا طلبت فنجان قهوة خلطوا القهوة بالحليب والسكر في محل لا تراه، وقدموه لك هكذا، فلا تدري ما وضع فيه.
فيا ألفي ألف ونصف ألف ألف من الناس متى تعيشون في هذه الدنيا الصغيرة عيشة مائتين ونصف مائة من سكان القرى في فرنسا وإيطاليا والشام وبر مصر، بأن تأكلوا خبزكم غير مخلوط بالبطاطس والشب وجبس باريس ولحمكم طريئا سليما لا من حيوان أصابه داء فَذُبِح، ولا مما يَرِدُ إليكم من أميركا موضوعا في الثلج، ولا مما خم وأنتن فتحشون به المصارين والحوايا؟ فلعمر الله إن كان هذا الغش نتيجة التمدن والترقي في العلوم فَلَلْجَهْلُ خير، فإن أهل بلادنا والحمد لله على جهلهم ما يعرفون شيئا من هذه الفنون الكيميائية والأخلاط غير المتناهية التي توجب على الشاري أن يستصحب معه مرآة من المرايا المكبرة ليرى بها تلك الأجزاء والمركبات فيما يؤكل ويشرب في وطنكم هذا السعيد.
أَوَما كفي أن هواكم مخلوط بالدخان وشتاءكم يدوم 8 أشهر تقضي بالاصطلاء على نار الفحم الحجري؟ وما أدراك ما الفحم الحجري؟ وبخوض الوحول ويستنشق الضباب حتى زدتم على هذا البلاء الطبيعي بلاء صنائعيًّا تعافه الحيوانات؟! فإن الكلاب والسنانير تأبى أكل هذه الجباجب التي تحشونها بلحومهن، ثم أقول أولم يكف أن نسَّاجيكم وخياطيكم وأساكفتكم وصاغتكم وصباغيكم وسائر أهل الصنائع منكم يغشون ويموهون ويلبسون ويشبهون ويضلون ويغوون، فما يُدْرى الحرير عندكم من القطن، ولا الجديد من القديم المصبوغ، ولا المخيط من الملصق؟ وأن المومسات يتطاولن على الرجال ويشممنهم المسبت (الدواء الذي يقال له كلوروفورم) ثم يسرقنهم.
وإن منكم نباشين للقبور يسرقون أكفان الموتى ويبيعونها، وإن الأولاد يختلسون في كل طريق مظلم وفي كل زحام، وإن سفلتكم عارون عن الأدب والحياء، ودأبهم التعدي على الغريب والإساءة إليه، وإن كثيرا من بيوتكم القديمة وحيطانكم العهيدة تتهدم وتسقط على الناس فتهلكهم! وإنه قد يمكث الإنسان عندكم شهرا ولا يرى الشمس إلا مرة أو مرتين، وإن ربيعكم أبرد من شتائكم، وصيفكم أمطر من خريفكم، وإن لا فرجة عندكم ولا مشهد ولا موسم ولا ملهى إلا ويغص باللئام الطغام والأوباش والأوغاد والسفلة والأرذال، حتى عمدتم إلى إفساد ما خلقه الله من المأكول والمشروب طيبا مريئا؟ أفليست لكم ألسنة تذوق هذا الرجس، وتنطق بالحق، وحلوق تستبشع ذلك الخبيث من الطعام كما تستفظع حروف الحلق؟ فإن كان خلو لغتكم عنها هو مسبب من استطيابكم لهذا الخبيث فناها الله بضعفي ما في لغتنا منها.
أهكذا علمكم أهل الشرق أن تختبزوا الخبز مخلوطا بأصناف شتى؟ أهكذا علمكم أهل فرنسا أن تطبخوا هذه اللحوم المنتنة في مطاعمكم وتخفوا فسادها بكثرة الفلفل والأفحاء؟ أهكذا علمكم باسكت الرومي في سنة 1652 أن تصنعوا القهوة مخلوطة بجميع أنواع الحبوب؟ فما معنى كثرة دكاكين الكتب والمؤلفات التي لا عدد لها عندكم في كل فن وصنعة، وأنتم لا تحسنون أن تطبخوا بُضَيْعَةً من اللحم ببويقة من البقل، فكل لحم مشوي وكل بقل مسلوق؟! ويا ليت كان ذلك اللحم لحما وذلك البقل بقلا.
فاعجب أيها القارئ من أن هؤلاء الناس الذين يملكون ما ينيف على 5 آلاف باخرة منها ما هو أكبر من فُلْك نوح، كما زعموا وعندهم أكثر من ألفي صحيفة للأخبار، منها ما يطبع في كل يوم ومنها في كل أسبوع، لا يعرفون أن يأكلوا، وليس لهم ذوق يعرفون به الطيب من الخبيث من الطعام، ويرضون أن يأتيهم رجل من فرنسا أو إيطاليا ليبيعهم الخردل والخل والجبن مما يجلبه من بلاده، وليس منهم في تلك البلاد أحد يعلم أهلها شيئا من صنعة الطبخ، فكل شيء دخل في حلوقهم طاب استراطه، وكل ما عرض للبيع في حوانيتهم حل بيعه وشراؤه بحيث يُؤَدَّى عليه مكس للدولة!
وإني لأعجب كيف أنهم لا يختبزون خبزا من البطاطس وحدها، أو من الشعير وحده، أو من الأسماك كما في إيزلاند؟ وكيف لا يتجرون في طين الأرض القريبة من المسكوب الذي يقال: إنه يختمر مع الدقيق؟ وقد حان لي الآن أن أختم الكلام على لندرة فيما يَؤول إلى المأكول والمشروب، وأذكر ما فاقت به سائر مدن العالم فيما يطبع فيها من صحف الأخبار والكتب.