قبل أكثر من قرن من الزمان، عجز علماء الآثار عن تحديد طبيعة مادة لزجة ذات رائحة نفاذة عُثر عليها في مقبرة توت عنخ آمون. والآن، تشير دراسة حديثة إلى أن هذه المواد الغامضة قد تكون مستحضرات أفيونية، وذلك بفضل تقنيات تحليل كيميائي متطورة. هذا الاكتشاف يفتح نافذة جديدة على الممارسات الطبية والطقوسية في مصر القديمة.
نُشرت الدراسة في دورية “جورنال أوف إيسترن مدترينيان آركيولوجي”، وتستند إلى تحليل مزهرية من الألباستر المصري محفوظة في متحف بيبودي بجامعة ييل الأمريكية. المزهرية، التي تحمل نقوشًا بأربع لغات قديمة، أظهرت آثارًا كيميائية لأفيون مماثلة لتلك التي يعتقد أنها كانت موجودة في مقبرة الفرعون الشاب.
الكشف عن الأفيون في الألباستر: تقنيات حديثة تكشف أسرارًا قديمة
لم تتمكن التحاليل التي أجريت في وقت الاكتشاف عام 1922، ولا تلك التي تلتها بعد 11 عامًا، من تحديد هوية هذه المواد بشكل قاطع. واكتفى الكيميائي ألفريد لوكاس بوصفها بأنها “ليست عطورًا أو دهونًا”. لكن برنامج الصيدلة القديمة بجامعة ييل، باستخدام تقنيات متطورة، تمكن من تحديد بصمة كيميائية واضحة للأفيون.
المزهرية المصنوعة من الألباستر تحمل نقوشًا بأربع لغات: الأكادية، العيلامية، الفارسية، والمصرية. إحدى النقوش تُشير إلى أنها أُهدت للملك الفارسي خشايارشا الأول، الذي حكم الإمبراطورية الأخمينية من عام 486 إلى 465 قبل الميلاد. هذا يشير إلى أن المزهرية ربما انتقلت من بلاد فارس إلى مصر خلال تلك الفترة.
منهجية تحليل ثلاثية المراحل
اعتمد فريق البحث في جامعة ييل على منهجية تحليلية دقيقة وغير مدمرة تتكون من ثلاث مراحل. بدأت باستخراج البقايا العضوية من داخل المزهرية باستخدام تقنية “التحريك بالمذيب الساخن”، وهي طريقة تتيح استخلاص المركبات الكيميائية دون إتلاف الأثر. ثم تلتها مرحلة تحضير العينات كيميائيًا لزيادة قابليتها للقياس. وأخيرًا، تم إجراء تحليل فاصل وتشخيصي باستخدام كروماتوغرافيا متصلة بمطياف الكتلة.
يقول الباحثون إن استخدام الإيثانول عالي النقاوة كمذيب كان خيارًا مقصودًا، نظرًا لسميته المنخفضة وسهولة نقله، بالإضافة إلى قدرته على إذابة مجموعة واسعة من المركبات العضوية. كما حرصوا على تنظيف الأدوات المستخدمة بشكل متكرر وإجراء تحاليل فارغة للتأكد من عدم وجود تلوث خارجي.
أظهرت التحاليل وجود خمسة مركبات كيميائية رئيسية مرتبطة بالأفيون: المورفين، النوسكابين، البابافيرين، الثيبائين، والهيدروكوتارنين. هذا يشير بقوة إلى أن المزهرية كانت تحتوي على مستحضرات أفيونية، ربما لأغراض طبية أو طقوسية.
الاستخدامات المحتملة للأفيون في مصر القديمة
يرجح المؤرخون وعلماء المصريات أن استخدام الأفيون في مصر القديمة كان يقتصر على الأغراض الطبية، وليس الترفيهية. تشير النصوص الطبية القديمة، مثل بردية إيبرس، إلى استخدام الخشخاش لعلاج مجموعة متنوعة من الأمراض، بما في ذلك الألم والالتهابات واضطرابات النوم.
بالإضافة إلى ذلك، عُثر على صور لزهرة الخشخاش منقوشة على جدران المعابد، ووجد علماء الآثار آثارًا للأفيون في أواني فخارية وفي مقبرة شخص عادي في منطقة سدمنت جنوب القاهرة. هذا يدل على أن استخدام الأفيون كان شائعًا بين مختلف الطبقات الاجتماعية.
تشير الدراسات إلى أن الأفيون كان يُستخدم في مصر القديمة كمسكن للألم، ومضاد للالتهابات، ومساعد على النوم، وربما أيضًا في بعض الطقوس الدينية. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن كيفية استخدام الأفيون في مصر القديمة، وما هي الآثار التي كان لها على صحة السكان.
الخطوات التالية والآفاق المستقبلية
الآن، يتجه اهتمام الباحثين نحو تحليل المواد الموجودة في الأواني الأخرى التي عُثر عليها في مقبرة توت عنخ آمون، باستخدام نفس التقنيات المتقدمة. يهدف هذا إلى تحديد ما إذا كانت هذه الأواني تحتوي أيضًا على آثار للأفيون أو مواد أخرى ذات أهمية تاريخية. من المتوقع أن تستغرق هذه التحاليل عدة أشهر، وقد تقدم رؤى جديدة حول الحياة والموت في مصر القديمة.
بالإضافة إلى ذلك، يخطط الباحثون لإجراء المزيد من الدراسات حول التركيب الكيميائي للأفيون المستخدم في مصر القديمة، ومقارنته بالأفيون المستخدم في مناطق أخرى من العالم القديم. هذا قد يساعد في فهم أصول تجارة الأفيون وتأثيرها على الحضارات القديمة.













