في ظل استمرار الاعتقالات التي تستهدف قيادات في حركة النهضة التونسية، وعلى رأسهم راشد الغنوشي، وتزامنًا مع الأحكام القضائية الأخيرة الصادرة بحقه، تتجدد أهمية فهم مشروع الإسلام الديمقراطي الذي دافع عنه الغنوشي لعقود. يثير هذا الوضع تساؤلات حول مسار التحول الديمقراطي في تونس، والذي شهد، وفق مراقبين، تراجعًا ملحوظًا بعد الثورة، خاصةً مع الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس قيس سعيد.
يهدف هذا المقال إلى استكشاف الإرث الفكري لراشد الغنوشي، وتحليل تطور أفكاره حول العلاقة بين الدين والسياسة، والدولة والمجتمع. كما يتناول الآثار المحتملة لتطورات الأوضاع السياسية الحالية على مستقبل الإسلام الديمقراطي في تونس والمنطقة العربية.
تطور مفهوم الإسلام الديمقراطي في فكر راشد الغنوشي
بدأ اهتمام الغنوشي بالإسلام السياسي في ستينيات القرن الماضي، متأثرًا بأفكار حسن البنا وسيد قطب. لكنه سرعان ما انتقد النماذج التقليدية للإسلام السياسي، داعيًا إلى إعادة تفسير النصوص الدينية في ضوء الواقع المعاصر. وقد عبّر عن هذه الأفكار في كتابه “الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، الذي يعتبر نقطة تحول في فكره الفلسفي والسياسي.
من الخلافة إلى الديمقراطية
في البداية، دعا الغنوشي إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا الموقف، معتبرًا أن الخلافة ليست ضرورية لتحقيق العدالة والحرية. وبدلاً من ذلك، طرح مفهوم “الديمقراطية المسلمة”، الذي يجمع بين مبادئ الديمقراطية ومبادئ الإسلام. وكما يرى أندرو مارش، الأستاذ في جامعة ماساتشوستس ومؤلف كتاب “عن الديمقراطية المسلمة”، فإن هذا التحول لم يكن مفاجئًا، بل كان نتيجة لتطور فكري عميق ونضج سياسي.
أسس الديمقراطية المسلمة
تعتمد الديمقراطية المسلمة، وفقًا للغنوشي، على مجموعة من الأسس، بما في ذلك احترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير، والتعددية السياسية، والمساواة بين المواطنين. كما تشدد على أهمية الشورى، والتوافق، والعدالة الاجتماعية. ويرى الغنوشي أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، بل يمكن أن يكون مصدر قوة لها.
التحولات السياسية في تونس وتأثيرها على مشروع الإسلام الديمقراطي
شهدت تونس تحولات سياسية عميقة بعد الثورة، تضمنت صعود حركة النهضة إلى السلطة، ثم دستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة. وقد شاركت حركة النهضة في هذه التحولات كقوة رئيسية، ساعية إلى بناء دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة الاجتماعية. ولكن، في السنوات الأخيرة، واجهت حركة النهضة تحديات كبيرة، بما في ذلك الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد التيارات المعارضة، والأحداث الأخيرة التي قادها الرئيس قيس سعيد.
يُعدّ انقلاب الرئيس قيس سعيد في يوليو 2021 بمثابة نقطة تحول في مسار تونس الديمقراطي، حيث جمّد الدستور، وحل البرلمان، ومنح نفسه سلطات واسعة. وقد أثار هذا الانقلاب مخاوف واسعة النطاق بشأن مستقبل الديمقراطية في تونس، وحقوق الإنسان، والحريات العامة. وقد وصفه مراقبون بأنه تراجع كبير عن المكاسب التي تحققت بعد الثورة.
تداعيات الاعتقالات الأخيرة على مستقبل الإسلام الديمقراطي
تأتي الاعتقالات الأخيرة التي استهدفت راشد الغنوشي وقيادات أخرى في حركة النهضة في سياق التصعيد السياسي الذي تشهده تونس. وتثير هذه الاعتقالات تساؤلات حول دوافع السلطات التونسية، ومدى التزامها بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
كما تثير هذه الاعتقالات تساؤلات حول مستقبل الإسلام الديمقراطي في تونس والمنطقة العربية. فهل سيتراجع هذا المشروع بفعل الضغوط السياسية والقمع؟ أم هل سيتمكن من البقاء حيًا والتكيف مع الواقع الجديد؟
مستقبل التجربة التونسية والإسلام السياسي
يبقى مستقبل التجربة التونسية غامضًا، ولا يمكن الجزم بمسار الأمور. ولكن، من الواضح أن التحديات كبيرة، وأن هناك حاجة إلى حوار وطني شامل، وإلى توافق سياسي واسع، من أجل تجاوز الأزمة الحالية وبناء دولة ديمقراطية مستقرة ومزدهرة. من المتوقع أن يشهد المشهد السياسي التونسي مزيدًا من التوتر والتقلب في الفترة القادمة، خاصةً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وينبغي مراقبة التطورات عن كثب، وتقييم تأثيرها على مستقبل الديمقراطية في تونس.













