أعلنت الولايات المتحدة يوم 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري عن وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2025، والتي تمثل تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية والاقتصادية للبلاد. هذه الوثيقة ليست مجرد تقييم للتهديدات الأمنية، بل هي إعلان عن نهاية حقبة من العولمة التقليدية، ورؤية جديدة تركز على تعزيز الاقتصاد الأميركي وحماية المصالح الوطنية في عالم متغير. وتُشير الوثيقة إلى إعادة تقييم شاملة للتحالفات والشراكات الدولية، مع التركيز على المنافسة الاقتصادية مع قوى صاعدة مثل الصين.
تؤكد الإستراتيجية الجديدة على أن القوة الاقتصادية هي الأساس للأمن القومي، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة بناء قدراتها الصناعية وتقليل اعتمادها على سلاسل التوريد العالمية. وتعتبر هذه الوثيقة بمثابة نقطة تحول في طريقة تعامل واشنطن مع القضايا الدولية، حيث يطغى البعد الاقتصادي على الاعتبارات السياسية والعسكرية التقليدية.
الاقتصاد أولاً.. عودة الدولة الوطنية الأميركية وتأثيرها على الأمن القومي
تعتمد الإستراتيجية على مبدأ أساسي مفاده أن “القوة الأميركية تبدأ من الداخل”، وهذا ليس مجرد شعار، بل رؤية اقتصادية مدعومة بأرقام وإحصائيات. فقد شهد الاقتصاد الأميركي نمواً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، مع ارتفاع الاستثمارات الصناعية في الداخل وتدفق رؤوس الأموال إلى القطاعات التكنولوجية المتقدمة.
وتشير البيانات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة نما بنسبة 2.3% على الرغم من تباطؤ النمو العالمي، وأن الاستثمارات الصناعية ارتفعت إلى 78 مليار دولار في عام 2024. كما تم ضخ أكثر من 130 مليار دولار في القطاعات التكنولوجية العالية، مما ساهم في تعزيز الابتكار والقدرة التنافسية للشركات الأميركية.
هذه الأرقام ليست مجرد تفاصيل تقنية، بل هي الأساس الذي بنيت عليه سياسة الأمن القومي الجديدة التي تهدف إلى حماية الاقتصاد الأميركي وتعزيز مكانته في العالم. وتتضمن هذه السياسة مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى تقليل العجز التجاري، وتشجيع الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الخارجية.
تحولات في السياسة الخارجية والتحالفات
من خلال هذه الإستراتيجية، تتبنى واشنطن ما يمكن تسميته “النسخة الحديثة من مبدأ مونرو”، ولكن بصيغة اقتصادية صناعية واضحة. يهدف هذا المبدأ إلى منع أي قوة خارجية من اكتساب نفوذ في نصف الكرة الغربي أو السيطرة على أصول إستراتيجية قريبة من المجال الأميركي.
وتشير الوثيقة إلى أن التزامات واشنطن التقليدية، مثل حماية أمن إسرائيل أو ضمان أمن الممرات المائية، لم تعد التزامات دائمة، بل “خطوط حمراء” تُدار بمرونة، وبأقل كلفة ممكنة. وهذا يعني أن الولايات المتحدة ستكون أكثر انتقائية في تدخلاتها العسكرية والسياسية في الخارج، وستركز على حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية المباشرة.
نظرة جديدة للشرق الأوسط
تُظهر الوثيقة تحولاً عميقاً في نظرة واشنطن للشرق الأوسط. فقد كان الشرق الأوسط مركزاً للسياسة الأميركية على مدى عقود، بسبب أهميته الاستراتيجية وموارده النفطية. ولكن مع زيادة إنتاج النفط في الولايات المتحدة وتغير ديناميكيات الطاقة العالمية، فقدت المنطقة جزءاً من أهميتها بالنسبة لواشنطن.
وتصف الوثيقة الشرق الأوسط بأنه “منطقة شراكة لا منطقة التزام عسكري طويل الأمد”. وهذا يعني أن الولايات المتحدة لن تعود إلى نمط التدخل السابق في المنطقة، وستركز على بناء شراكات اقتصادية وأمنية مع الدول التي تشاركها مصالحها.
وتؤكد الوثيقة على أن مستقبل المنطقة يعتمد على قدرة دولها على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وتعزيز التعاون الإقليمي.
مستقبل العلاقات مع أوروبا والصين وروسيا
تعتبر الوثيقة أن أوروبا بحاجة إلى تحمل المزيد من المسؤولية عن أمنها واقتصادها. وتدعو الدول الأوروبية إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، وإعادة بناء صناعاتها، وتنويع مصادر الطاقة لديها.
في المقابل، تعتبر الوثيقة أن الصين هي المنافس الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة. وتدعو إلى تعزيز القدرة التنافسية للشركات الأميركية، وحماية الملكية الفكرية، ومواجهة الممارسات التجارية غير العادلة التي تمارسها الصين.
أما بالنسبة لروسيا، فترى الوثيقة أنها قوة إقليمية تسعى إلى تقويض النظام الدولي القائم. وتدعو إلى مواجهة الأنشطة العدوانية الروسية، ودعم الدول التي تواجه ضغوطاً روسية.
بشكل عام، تعكس إستراتيجية الأمن القومي الأميركية 2025 تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية والاقتصادية للولايات المتحدة. وتشير إلى أن العالم يدخل مرحلة جديدة من المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية، وأن الولايات المتحدة تسعى إلى إعادة تعريف دورها في هذا العالم. من المتوقع أن يتم الإعلان عن تفاصيل إضافية حول هذه الإستراتيجية خلال الأشهر القادمة، وأن يتم تنفيذها من خلال سلسلة من السياسات والإجراءات الجديدة. وسيكون من المهم مراقبة تأثير هذه الإستراتيجية على العلاقات الدولية وعلى الاقتصاد العالمي.












