في الأسابيع الأولى من تدفق صور تلسكوب جيمس ويب الفضائي عام 2022، لاحظ علماء الفلك نمطًا غير مألوف: نقاط صغيرة شديدة الاحمرار تبدو كنجوم منفردة، لكنها لا تتصرف طيفيًا كنجوم ولا تشبه المجرات البعيدة. هذه الأجرام، التي أصبحت تُعرف باسم “النقاط الحمراء الصغيرة”، أثارت تساؤلات حول فهمنا للكون المبكر، وتحدت النماذج النظرية الحالية. تعتبر دراسة هذه الأجرام الغامضة من أهم التحديات التي تواجه علم الفلك اليوم.
اكتشاف هذه الظاهرة جاء نتيجة القدرة الفريدة لتلسكوب جيمس ويب على الرصد في الأطوال الموجية تحت الحمراء، وهي أطوال موجية لم يكن مرصد هابل السابق قادرًا على الوصول إليها. أظهرت البيانات أن هذه النقاط الحمراء أكثر عددًا مما توقعت النماذج الأولية، مما يشير إلى وجود عمليات في الكون المبكر لم نكن على علم بها. تعتبر هذه الاكتشافات بمثابة نقطة تحول في دراسة الكون المبكر.
مشكلة تصنيف النقاط الحمراء الصغيرة
ومع تراكم البيانات، اتضح أن المشكلة ليست مجرد “غرابة لونية”، بل مشكلة في التصنيف. لفهم أي جسم سماوي، نحتاج إلى نموذج يربط بين مظهره وطيفه الفيزيائي. النجوم، على سبيل المثال، نفهمها من خلال الاندماج النووي وبلازما الجاذبية، والمجرات نفهمها من خلال تراكيبها النجمية وغبارها وتاريخ تشكلها.
أما هذه النقاط الحمراء الصغيرة فلم تكن تلائم أي خانة جاهزة. ظهرت تفسيرات مبكرة تشير إلى أنها مجرات فائقة الكثافة مليئة بالنجوم ومصبوغة بالاحمرار بسبب الغبار، أو أنها نوى مجرية نشطة محتجبة بالغبار. لكن كل تفسير كان يتطلب افتراضات نظرية باهظة الثمن.
النوى المجرية النشطة وتحدياتها
النوى المجرية النشطة هي قلب مجرة يلمع بسطوع غير عادي بسبب وجود ثقب أسود فائق الكتلة يبتلع الغاز والغبار. ومع ذلك، فإن تفسير النقاط الحمراء الصغيرة على أنها نوى مجرية نشطة يتطلب وجود ثقوب سوداء أكثر عددًا وكتلة مما تسمح به التوقعات المعتادة.
أظهرت التحليلات الأولية أن هذه الأجرام لا تتفق مع أي نموذج معروف في فيزياء الكونيات، مما دفع العلماء إلى البحث عن تفسيرات جديدة ومبتكرة.
تحليل الضوء يكشف عن أسرار “الجرف”
هنا دخلت الأطياف إلى قلب القصة، وهي تحليل ضوء الجرم السماوي لفككه إلى أطوال موجية مختلفة. تساعد هذه العملية في الكشف عن تركيب المادة وحرارتها وسرعتها، وتحديد ما إذا كان الضوء صادراً من نجوم أو غاز ساخن أو محجوبًا بالغبار. الصورة تخبرنا بالشكل، في حين الطيف يخبرنا بالفيزياء.
درس العلماء في برنامج “روبيز” للرصد الفلكي أطياف ما يقرب من 4500 مجرة بعيدة، ووجدوا ضمنها 35 مثالاً من “النقاط الحمراء الصغيرة”. من بين هذه الأمثلة، برز جسم شديد التطرف أطلق عليه اسم “الجرف” بسبب القفزة الحادة في طيفه.
يقع “الجرف” على مسافة حوالي 11.9 مليار سنة ضوئية، مما يعني أنه عاش بعد نشأة الكون بحوالي مليار إلى ملياري سنة. طيف “الجرف” لا يتفق مع أي نموذج معروف، مما أثار حيرة العلماء.
فكرة “نجم الثقب الأسود”
عندما فشلت التفسيرات المألوفة، طرح الفريق فكرة لافتة وهي “نجم الثقب الأسود”. هذا ليس نجمًا بالمعنى التقليدي، بل نظام تقوده نواة مجرية نشطة وثقب أسود محاط بغلاف كثيف من غاز الهيدروجين. يمكن لهذا الغلاف الغازي أن يصنع “الحافة” الطيفية التي حيرت الجميع، ويجعل الجسم يبدو نقطة مدمجة شديدة الاحمرار.
إذا صحت هذه الفكرة، فإنها قد تفسر كيفية نمو الثقوب السوداء الضخمة بهذه السرعة في الكون المبكر. وجود مرحلة “مغلفة بالغاز” قد يتيح معدلات ابتلاع أعلى للمادة المحيطة بالثقب الأسود، مما يؤدي إلى نمو أسرع.
تبعات مزعجة ومستقبل البحث
إذا تم تأكيد فكرة “نجم الثقب الأسود”، فإنها ستفتح آفاقًا جديدة لفهمنا للكون المبكر. ومع ذلك، لا تزال هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة، مثل كيفية تشكل الغلاف الغازي وكيف يستمر رغم ابتلاع الثقب الأسود للمادة. الفيزياء الفلكية تحتاج إلى مزيد من البحث.
يبدو أن اكتشاف النقاط الحمراء الصغيرة يمثل لحظة إعادة ضبط منهجية في علم الفلك. تلسكوب جيمس ويب لم يقدم مجرد صور أجمل، بل كشف عن فئة من الأجرام التي لم نكن على علم بها، وتحدى توقعاتنا. من المتوقع أن يتم إجراء المزيد من الدراسات التفصيلية لهذه الأجرام في الأشهر والسنوات القادمة، بهدف فهم طبيعتها الحقيقية وتأثيرها على تطور الكون. سيتم التركيز على جمع المزيد من البيانات الطيفية وتحسين النماذج النظرية لتفسير هذه الظاهرة الغامضة. من المقرر نشر نتائج جديدة في مؤتمر علم الفلك الدولي في سبتمبر 2026.













