عادة ما يتكون الذهب داخل ما يعرف بـ”الأنظمة الأوروجينية”، حين تدفع الحركات التكتونية بالمعادن نحو الأعماق، لتتبلور تحت درجات حرارة وضغط مرتفعين. لكن فريقًا بحثيًا مغربيًا أكتشف مؤخرًا ظروفًا فريدة لتكوين الذهب في منجم “ميلينت” بمنطقة “درعة السفلى” بجبال الأطلس الصغير، معتمدًا على تفاعل نادر بين الحرارة والمياه.
يقع المنجم في الجزء الشمالي من “الدرع الغرب أفريقي”، وهو أحد أقدم التكوينات القارية على الأرض، حيث تعود أصول صخوره إلى ما يزيد عن ثلاثة مليارات سنة. يتكون المنجم من صخور ريوليتية بركانية قديمة تعرضت لعمليات ضغط وطي وانكسار عبر الزمن، مما أدى إلى تشكل عروق وشقوق صخرية.
قصة ميلاد الذهب في منجم ميلينت
تتميز عملية تكوين الذهب في منجم ميلينت بظروف غير اعتيادية. فالمياه الحارة الغنية بالمعادن، المعروفة باسم “المحاليل الهيدروحرارية”، تسربت عبر الشقوق العميقة في الصخور، حاملة معها الذهب والفضة والتيلوريوم. هذه المياه، التي كانت ناتجة عن تفاعل بين الحرارة البركانية والمياه الجوفية العميقة، لعبت دورًا حاسمًا في إذابة المعادن ونقلها.
عندما وصلت هذه المحاليل إلى أعماق الصخور الباردة نسبيًا، انخفضت درجة حرارتها تدريجيًا، مما أدى إلى فقدانها لقدرتها على الاحتفاظ بالمعادن الذائبة. نتيجة لذلك، بدأ الذهب بالترسب والتبلور داخل الشقوق، مكونًا نُتفا لامعة يمكن رؤيتها بالعين المجردة. هذه العملية، التي استمرت لفترة طويلة، أدت إلى تراكم الذهب في عروق صخرية متميزة.
خصائص فريدة لذهب ميلينت
يختلف ذهب منجم ميلينت عن الذهب الموجود في العديد من المناطق الأخرى، حيث لا يرتبط بمعادن الكبريتيد الشائعة مثل الرصاص والزنك. بدلًا من ذلك، يتواجد مرتبطًا بمعادن التيلوريدات والمونازيت الهيدروحراري. هذا الارتباط يشير إلى أن عملية التكوين كانت ناتجة عن تفاعل معقد بين المياه الحارة والصخور البركانية، مما أدى إلى تكوين نظام معدني فريد من نوعه.
الأمر المميز هو أن هذه العملية الحيوية في تكوين الذهب تعتمد على وجود التيلوريوم، وهو معدن نادر يمثل مؤشرًا على أن السوائل التي حملت الذهب كانت ماجما-حرارية، أي ناتجة عن تفاعل بين الصهارة البركانية والمياه العميقة. هذا التفاعل غير المعتاد يفسر نقاء الذهب وخصائصه الفريدة.
أهمية الاكتشاف وتأثيره على الاستكشاف المعدني
يمثل اكتشاف هذه الظروف الفريدة لتكوين الذهب في منجم ميلينت إضافة مهمة للمعرفة الجيولوجية في المغرب وشمال أفريقيا. فهو يوضح أن هناك آليات أخرى لتكوين الذهب غير تلك المعروفة تقليديًا، وأن البحث عن الذهب يجب أن يركز أيضًا على المناطق التي شهدت نشاطًا بركانيًا قديمًا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود معادن مثل التيلوريوم والعناصر الأرضية النادرة المرتبطة بالذهب في ميلينت يفتح آفاقًا جديدة للاستكشاف المعدني. هذه المعادن يمكن أن تكون مؤشرات على وجود رواسب معدنية أخرى ذات قيمة اقتصادية عالية. الاستكشاف المعدني في المغرب قد يشهد تطورًا ملحوظًا بفضل هذا الاكتشاف.
يخطط الفريق البحثي، بالتعاون مع الجهة المالكة لتصريح الاستكشاف، لإجراء المزيد من الدراسات لتحديد العمر الزمني الدقيق لتكون الذهب في ميلينت، وتحليل الخصائص الحرارية والضغطية للصخور المحيطة. من المتوقع أن يتم الانتهاء من هذه الدراسات بحلول نهاية عام 2025، مما سيوفر فهمًا أعمق لعملية تكوين الذهب في هذا المنجم الفريد. النتائج المستقبلية ستحدد ما إذا كانت هذه الظروف الجيولوجية تتكرر في مناطق أخرى من المغرب.













