على مدى قرون احتضنت مدينة شنقيط الموريتانية تاريخا إسلاميا عريقا، وإلى هناك توافد الشعراء والعلماء والفقهاء إلى الحاضرة إذ كانت مركزا تجاريا عبر الصحراء الكبرى، وتضم أكثر من 12 مكتبة وآلاف المخطوطات، لكن المدينة التاريخية الآن في مواجهة قاسية مع الرمال المتحركة.
تعد شنقيط واحدة من أربعة مواقع مدرجة على قائمة التراث العالمي ليونسكو في موريتانيا، فمنازلها المبنية من الحجارة الجافة والملاط الطيني ومساجدها ومكتباتها، تحتوي على بعض أقدم النصوص والمخطوطات القرآنية في غرب أفريقيا، وتغطي موضوعات متنوعة من القانون إلى الرياضيات.
وتقلصت المساحات الصالحة للزراعة في شنقيط حتى أصبحت لا تزيد عن 0.5% من مساحتها الكلية، ومع ذلك تتعرض هذه المساحة الصغيرة لزحف الرمال باستمرار لتصل إلى وسط المدينة.
كما تغطي الرمال المتحركة قلب المدينة القديمة، التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن، ومع ارتفاع درجات الحرارة والجفاف في العالم، تتسبب العواصف الرملية في تساقط كميات كبيرة من الكثبان الرملية على شوارع شنقيط ومنازلها، مما يؤدي إلى غمر بعضها بالكامل.
وتحاول مشاريع زراعة الأشجار إبعاد الرمال الغازية، ولكن حتى الآن لم تنجح في تخفيف المخاوف بشأن المستقبل.
كارثة بيئية
ويشعر المسؤول المحلي، ملينين ميد الولي، بالألم إزاء المخاطر التي تهدد السكان والتاريخ الذي تحتويه معالم شنقيط. وقال “إن الأمر يشبه مشاهدة كارثة طبيعية بالحركة البطيئة”.
ويقول الولي، رئيس جمعية إدارة الواحات التشاركية المحلية: “إنها مدينة محاطة بمحيط من الرمال يتقدم كل دقيقة. هناك أماكن أسير فيها الآن وأتذكر أنها كانت أسطح منازل عندما كنت طفلا”.
ووفقا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2024 عن التصحر، أصبح أكثر من ثلاثة أرباع مساحات الأرض أكثر جفافا في العقود الأخيرة.
وقد أدى الجفاف إلى عدم قدرة النباتات والبشر والحيوانات على البقاء. فهو يحرم الأراضي من الرطوبة اللازمة لاستدامة الحياة، ويقتل المحاصيل ويمكنه أن يُحدث عواصف رملية وحرائق غابات.
ويشعر العلماء وصناع السياسات بالقلق من الجفاف وتدهور التربة في المناطق التي كانت خصبة في السابق وأصبحت تدريجيا أراضيَ قاحلة، وليس المقصود هنا المناطق الواقعة في عمق الصحراء الكبرى.
ومع ذلك فإن تغير المناخ في شنقيط يؤدي إلى العديد من العواقب الوخيمة التي حذر منها المسؤولون، فالأشجار تذبل، والآبار تجف، وسبل العيش تختفي.

الصمود الصعب
يجد مزارعو التمور مثل سليمة ولد سالم البالغ من العمر 50 عاما صعوبة متزايدة في سقي أشجار نخيلهم، ويتعين عليهم الآن نقل المياه من الخزانات لسقيّها، وتقليمها بشكل أكثر دقة للتأكد من جودة محاصيلها. وقبل سنوات كانت المنطقة التي يقطنها سالم مليئة بالعائلات، لكنها نزحت تدريجيا لقساوة الطبيعة وصعوبة العيش.
وتسد الرمال الآن المدخل المؤدي إلى منزله، كما أصبح بيت الضيافة القريب الذي بناه مستثمر بلجيكي قبل عقود من الزمان مغمورا جزئيا بكثيب رملي متموج ذي لون أصفر نحاسي.
ورغم رحيل كثيرين، فإن سالم لا يزال صامدا مع أن منزله لم يعد حصنا منيعا،وأصبح عرضة لأن تبتلعه الصحراء، وهو يقول: “نحن نفضل البقاء هنا، إذا غادرت، سيختفي مكاني”.
كانت أشجار الأكاسيا والصمغ والنخيل في الماضي تحمي المنطقة من الكثبان الرملية، ولكنها اختفت تدريجيا. وماتت هذه الأشجار، إما عطشا أو بعد أن قطعها السكان الذين يحتاجون إلى الحطب أو أوراق الشجر لتتغذى عليها قطعانهم.
ويقول محمد الأمين بهاني، وهو مدرس متقاعد من سكان شنقيط، إن العواصف الرملية ليست جديدة ولكنها أصبحت أكثر إزعاجا، حيث تتقدم بوصات أو أقداما في الأحياء الواقعة على حافة المدينة. ويستخدم السكان البغال والعربات لإزالة الرمال لأن شوارع المدينة القديمة ضيقة للغاية، بحيث لا تستوعب السيارات أو الجرافات، وعندما تتراكم الرمال كثيرا، يبني بعضهم جدرانا جديدة على الهياكل القائمة.

الأحزمة الخضراء
وقال بهاني: “عندما تزيل الغطاء النباتي، فإن ذلك يمنح الكثبان الرملية فرصة لتصبح أكثر نشاطا، لأن الغطاء النباتي في النهاية، هو الذي يصمد في وجه الرمال حتى لا تتحرك كثيرا”.
وبسبب نخفاض هطول الأمطار، تموت الأشجار، وتزحف الرمال إلى المدينة. ومع غمر الرمال أشجار الأكاسيا، يلجأ بعض الرعاة إلى قطع أشجار النخيل لإطعام قطعانهم، مما يزيد من تعطيل النظام البيئي واقتصاد زراعة التمور.
ويرى بهاني، أن الرمال تثير أيضا مخاوف تتعلق بالصحة العامة للمجتمع الذي يتنفس الغبار. وهو يعتقد أن الحل يكمن في زراعة المزيد من الأشجار في الأحياء وعلى طول محيط المدينة.
وقد تم اقتراح مثل هذه “الأحزمة الخضراء” على نطاق القارة بأكملها مثل “السور الأخضر العظيم” في أفريقيا وكذلك محليا، في مدن مثل شنقيط.
كما طرحت وزارة البيئة ووزارة الزراعة في موريتانيا بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية الممولة من أوروبا مشاريع لزراعة الأشجار لعزل مكتبات المدينة وما فيها من مخطوطات مخطوطاتها عن الصحراء الزاحفة.
ورغم إعادة زراعة بعض الأشجار، إلا أن هناك مؤشرات قليلة على أنها ساهمت في وقف زحف الصحراء. فقد يستغرق الأمر سنوات حتى تنمو الجذور الرئيسية بعمق كافٍ في الأرض للوصول إلى المياه الجوفية، حيث تنتظر شنقيط قدرها وسط زحف الرمال المستمر. وفي هذا السياق يقول ملينين ميد الولي: “نحن مقتنعون بأن التصحر هو قدرنا. ولكن لحسن الحظ، لا يزال هناك أشخاص مقتنعون أيضا بإمكانية مقاومته”.