الناقد المصري الدكتور أحمد كريم بلال من أكثر النقاد شهرة في العالم العربي، وقد زاد من شهرته حضوره التلفزيوني وفوزه بعدد من الجوائز المهمة أشهرها جائزة الطيب صالح 2011 عن كتابه جدلية الرمز والواقع: دراسة نقدية تطبيقية في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، وفوزه في العام 2019 بجائزة كتارا للنقد عن دراسته «سقوط أوراق التوت – المحظورات في الكتابة الروائية»، ولديه عدد من المؤلفات في الرواية والشعر، ومن أشهرها: الرؤى الثورية في القصة والرواية 2015، العنوان وبنية القصيدة في الشعر العربي المعاصر 2018، كتابية الشعر وتحولات البناء 2021، وغيرها، التقيته في هذا الحوار، للحديث عن رؤيته لبعض ما يحدث في الساحة الثقافية العربية وعن دور النقد.
• عند زيارتنا لأي معرض من معارض الكتاب، نجد أن القارئ العربي ينجذب أكثر إلى الروايات المترجمة، ألا ترى أن الرواية العربية في مرحلة انتعاش؟ وربما ما كتبه العرب في السنوات القليلة الماضية يساوي جميع ما أنتجوه منذ رواية زينب، ومع ذلك، يفضل القارئ العربي الروايات المترجمة إلى العربية أكثر من المكتوبة بها، بماذا تفسر-كناقد مهتم بالشعر والرواية- هذا السلوك؟
•• أتفق معك -طبعاً- في أن الرواية العربية في فترة انتعاش كبير، وأنها سبقت الشعر الآنَ في الرواج، ولعلها الآن قمينة بأن تكون (ديوان العرب العصري)؛ لكنني أختلف معك في اعتبار كثرة الإنتاج علامة انتعاش؛ لأن هذه الكثرة لها عيوب خطيرة ربما كانت دافعاً إلى توجه القارئ العربي للأدب المُترجم، عنيتُ: النمطية والتقليد والتبعية، فما إنْ تنجح فكرة لرواية ما من الروايات (من الناحية الموضوعية أو التقنية) إلا وتجد عشرات الكتاب قد تلقفوها، وأعادوا الكتابة فيها، فلا يكاد القارئ العربي يجد جديداً لا من ناحية الفن، ولا من ناحية الموضوع، خلافاً للمُنتج الغربي المُترجم، فالمُترجم من ناحية حريص على انتقاء موضوع جديد غير مطروق، وحريص أيضاً على اختيار عمل جيد، فالرواية المُترجمة هي رواية مُنتَخَبَة، ومن ثم متميزة. أضف إلى ذلك شغف القارئ باكتشاف عالم جديد يختلف عن عالمه العربي، وأنماط حياة غير معهودة، وثقافة مباينة لثقافته، وهو دافع لا يستهان به يدفعه لقراءة الرواية الغربية المُترجمة، فالهدف الرئيسي للقارئ هو إرضاء شغف الاستطلاع والمعرفة، إضافة إلى تحقيق المتعة الأدبية.
• لديك دراسة نقدية عن أدب نجيب محفوظ بعنوان الفجوات الدلالية في القصة القصيرة، وقد حازت على جائزة وزارة الثقافة المصرية، ولديك شهادة تلفزيونية عن رواية أولاد حارتنا، أود أن أسألك عن سر عالمية نجيب محفوظ وما الذي يميزه عن الأدباء العرب الآخرين؟
•• هناك عوامل نجاح كثيرة اجتمعت لمحفوظ دون غيره من الأدباء، لكن هذه العوامل -على كثرتها وتعددها- يمكن أن تلتقي جميعاً، أو يمكن اختزالها جميعاً في كلمة واحدة: (الإجادة). والإجادة جاءت من سعة مطالعته للأدب الشرقي والغربي على حد سواء، وفي مختلف فنونه نثراً وشعراً، واطلاعه على التطور الفني للرواية الغربية، واستحداث تقنياتها في كتاباته مثل (تيار الوعي، والرواية النفسية، ورواية الأصوات المتعددة، والعجائبية) مثلاً، فضلاً عن أسلوبه اللغوي الفاتن، الذي يحقق المتعة الأدبية التي تطلع إليها القارئ (على الأخص في رواياته الأخيرة)، إضافة إلى ذلك كله: انغماسه في بيئة مكانية محدودة جداً، وهي القاهرة، وحي الجمّالية والأزهر على وجه الخصوص، وهذه الناحية الأخيرة سلاح ذو حدين، فمن ناحية قد يحصر الكاتب في إطار موضوعي ضيق، ومن ناحية قد يتيح له التعمق في فهم المكان وطبيعته وأشخاصه، وتقديمهم على نحو كبير من الإتقان، والحق أن محفوظ قد تجاوز العقبة الأولى، وأفاد إفادة كبيرة من الميزة الثانية.
• العام 2011 من أهم الأعوام في تقويمك الشخصي، فقد فزت بجائزة الطيب صالح في النقد، عن كتابك جدلية الرمز والواقع وهو دراسة نقدية تطبيقية في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، حدثنا عن هذه التجربة وماذا أضافته لك؟
•• كانت موسم الهجرة إلى الشمال رواية ماتعة للغاية، وقد كتبت عنها من منظور جديد، وهو فكرة: جدلية الرمز والواقع في الرواية، بمعنى أن كل العناصر الواقعية في الرواية يمكن تأويلها رموزاً في حين أنها جزء من الواقع يعمل وفق خطة السرد المُحكمة، وتوصل الكتاب من خلال دراسة هذه الرواية إلى أن الرمز الروائي له طبيعة خاصة تختلف تماماً عن طبيعة الرمز الشعري. وكان من توفيق الله تعالى أن فاز الكتاب بهذه الجائزة المرموقة في دورتها الأولى سنة 2011، وطبعاً أفضل ما في هذه التجربة هي زيارة السودان الحبيب، وقد لاحظت أن السودان يكاد يكون هو (الصعيد المصري) بملامحه الجغرافية، وطابعه العمراني، وعاداته وتقاليده، ولذا شعرت تماماً أنني في بلدي، بل كنت في بلدي فعلاً، ولعل مما يدل على هذا التقارب الشديد أنني قلت للأستاذ مجذوب العيدروس كيف سأحصل على نصيبي من النسخ المطبوعة من الكتاب، فقال لي ممازحاً: «يا زول بينا وبينكم حيطة، نرميها واتلقاها من الناحية التانية».
• هنالك مقولة شائعة في السودان تقول إن الطيب صالح قد صار سقفاً للرواية السودانية، كيف تنظر إلى الرواية السودانية من خلال النماذج التي أتيحت لك قراءتها؟ وما رؤيتك لفكرة أن يُنْظر إلى أدب بلد كامل من خلال أديب واحد أو اختزال تجربة كاملة لأديب في عمل واحد مشهور؟
•• بالنسبة للجانب الأول من سؤالك: سامحني لأنني بالفعل لم أطالع الرواية السودانية إلا من خلال الطيب صالح، ثم من خلال: أمير تاج السر، وهذا الأخير نموذج أدبي متميز جداً من ناحية الإجادة الفنية، ومن ناحية غزارة الإنتاج وتنوع الموضوعات. ومن ناحية أخرى مسألة رؤية الأدب من زاوية واحدة هي مسألة قدرية للأسف الشديد، وربما كانت هذه جناية نجاح العمل على صاحبه، وأنا أعلم أن الطيب صالح رحمه الله تعالى كان يضيق كثيراً عندما يُسأل في كل لقاء عن موسم الهجرة وكأنه لم يبدع غيرها، ومن قبله كذلك كان الهادي آدم رحمة الله عليه عندما يطلب منه صحفي لقاء كان يشترط ألا يسأله عن قصيدة: (أغداً ألقاك) التي غنتها أم كلثوم فطارت بها الركبان. وهناك نماذج متعددة خارج السودان أيضاً مثل الأديب المصري يحيي حقي ورائعته: (قنديل أم هاشم)، بل إن ثمة شواهد قديمة جداً لهذه الظاهرة، فعندك مثلاً عمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي جنت عليه معلقته؛ فلم يحفظ الناس من شعره غيرها؛ حتى أُطلق عليه صاحب الواحدة!
• لديك احتفاء خاص بثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، ما سر هذا الاحتفاء؟
•• الحقيقة أنني لست راضياً عن بعض الجوانب الفكرية التي تعكسها (ثلاثية غرناطة)؛ لكنها عمل جيد جداً من الناحية الفنية، وأبرز ما في هذا العمل أنه عرض لأحداث سقوط غرناطة من خلال أسرة فقيرة بسيطة مهمشة شغلت موقع البطولة، خلافاً للمعهود من الروايات التاريخية التي تضع أبطال التاريخ من الملوك والقادة والزعماء في موضع الصدارة، وتجعلهم في موضع بؤرة الأحداث؛ بينما نجدهم على الهامش تماماً في ثلاثية غرناطة.
• في كتابك سقوط أوراق التوت الفائز بجائزة كتارا للنقد 2019، تحدثت عن تناول المحظورات في الأدب، حدثنا عن الكتابة التي تقتحم حصن المحظورات، وهل تعتقد أن الرواية لا بد لها أن تكون صادمة حتى تلفت إليها انتباه القراء؟ كيف ترى التحولات في معالجة المحظورات في الأدب العربي؟ وهل ترى أن الجرأة أضافت قيمة نوعية؟
•• الحقيقة أن هذا الكتاب كان مغامرة كبيرة بالنسبة لي، فالموضوع شائك وخطير، وأغلب الروايات التي توغلت في المحظور الجنسي كانت تتسم بالإسفاف والسطحية، وأقلها (وإنْ اختلفنا معه من ناحية الفكر) على درجة كبيرة من الإجادة الفنية، وكان الناقد الذي يدرس هذه الظاهرة بين نارين، إما أن يشيد بالبناء الفني فيُسَاء فهمه، ويُعتبر متعاطفاً مع ما نادت به هذه الروايات من انحلال أخلاقي، وإما أنْ يهاجم ما تنادي به من أفكار إباحية؛ فيُتّهم بأنه يقدم نقداً دينيّاً! والحقيقة أنني كتبت هذا الكتاب بحذر شديد جداً، واستقصيت جميع الجوانب بقراءة ما يزيد على سبعين رواية انتخبت منها خمساً وثلاثين رواية للدراسة؛ بحيث استطعت الوقوف على الأسباب والدوافع، وإبراز الجوانب الفنية والتأويلية، وتحليل مستويات اللغة، وتمييز الهادف الذي تقف من ورائه فكرة ودلالة ورؤية من البذيء والمنحط الذي لا قيمة له، وبفضل الله تُوِّج هذا العمل الذي عكفت عليه عاماً كاملاً في تفرغ يكاد يكون تاماً؛ تُوِّج بالفوز بجائزة كتارا، وهي من الجوائز الرفيعة التي اعتبرها من الإنجازات الكبيرة في حياتي.
• من الصعب أن يرى كاتبٌ مبتدئ أو غير مشهور نقداً لأعماله في الصحف، فالنقد في معظم الأحيان يُمارس في إطار الصداقة الشخصية، وغالباً ما يكون هذا النقد المبني على المحبة لطيفاً ويبحث عن الجوانب المشرقة في العمل ويتجاوز نقاط ضعفه، ما مدى تأثير هذا السلوك على الساحة الأدبية؟
•• معك حق طبعاً، هذا السلوك موجود بالفعل، وبقوة، وهو -عند شيوعه ورواجه- يؤدي إلى انتكاسة في الذوق الأدبي العام؛ ولأعترف لك أنني شخصيّاً تُمارس علي أحياناً بعض الضغوط العاطفية من قِبل بعض الأصدقاء لكي أكتب عن أعمالهم، وأتهرب من ذلك كثيراً؛ وربما دُفعت أحياناً للتعليق بكلمة فيها بعض المجاملة بسبب الضغط الشديد، والإلحاح المتزايد، والحرص على استبقاء المودة، وبالنسبة لي شخصيّاً لم يكن هذا إلا كلاماً عابراً، ربما كان كلمة صغيرة في ندوة أدبية، أو تعليقاً مُجاملاً على «فيسبوك»، على أنني قطعاً لا أستطيع أن أقِيْمَ دراسة جادة مُحكمة مكتملة تقوم برمتها على المدح والمجاملة، وقد خسرت كثيراً من الأصدقاء لأنني تحدثت بصدق وحياد عن أعمالهم الأدبية في بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في بعض المقالات الصحفية!
أخبار ذات صلة
• هل تعتقد أن استكتاب الصحف للنقاد بالكتابة الثابتة لديها، أي حين يعرِّف أحد النقاد نفسه بـ«فلان الناقد الأدبي بجريدة كذا وكذا»، هل هذا سيسهم في تعزيز دور النقد؟
•• هذا السؤال تفريع من السؤال السابق، وهو يدور في الحلقة نفسها، وهو أيضاً من مشكلات النقد الأدبي ومن معوقات الحياد والموضوعية؛ لأن الارتباط بجريدة أو منبر كتابي أو إعلامي ما يجبرك على أن تتبنى سياسته، وألا تحيد عن أهدافه ومعتقداته الفكرية والفنية، وطبعاً من الخير للكاتب أن ينوّع في أماكن النشر، وألا يقع تحت سيطرة اتجاه فكري بعينه، وقد تجدر الإشارة هنا إلى حسنة كبيرة من حسنات مواقع التواصل الاجتماعي، وفيها -بالفعل- تيار نقدي بارز، صحيح أنه ربما كان خاضعاً في بعض جوانبه للأهواء والمجاملات، لكنه -على كل حال- منبر حر، لا يمكن أن يُخْضِعَ الناقد لهيمنة مؤسسة ما، أو اتجاه فكري أو فني بعينه.
• في مؤلفاتك هنالك اهتمام خاص بالشعر، فكتبت: كتابية الشعر وتحولات البناء 2021، خرائط الجنوب دراسة نقدية في أعمال الشاعر محمد إبراهيم يعقوب 2019، العنوان وبنية القصيدة في الشعر العربي المعاصر 2018 بوابة الريح والنخيل دراسة نقدية في أثر شاعرية الثبيتي في الشعر السعودي 2017، النزعة الدرامية في الشعر العربي المعاصر 2014، كيف تنظر إلى الحالة الشعرية العربية الآن؟
•• أعتقد أن الشعر قد تجاوز أزمته التي تفاقمت في التسعينيات من القرن الماضي، وثمة اتجاه عمودي جديد يجمع بين حسنات الحداثة الشعرية، ومزايا التراث، يمكن أن نتحدث بقوة عن حداثة الشعر العمودي، من رواد هذا الاتجاه الحديث شعراء سعوديون مثل محمد إبراهيم يعقوب، وأيضاً الشاعر السوداني محمد عبد الباري، والشاعر الجزائري محمد فاضلي، والسوري أنس الدغيم، وغيرهم، وهذا التحول كان ضرورة مجتمعية اقتضتها الحاجة الماسة إلى الشعر، وعجز الحداثة الشعرية عن تلبية متطلبات الجمهور من الناحية الجمالية أو الموضوعية.
• قرأت لك نكتة عن فحولة الشاعر، فمن بين صفات الشاعر الفحل منها جزالة اللغة وتنوع الموضوعات وإطالة القصائد والكرامة والرجولة والإباء، هل ما زالت الأمة العربية تنجب شعراء فحولاً؟
•• الحقيقة أن شرط الفحولة كان مرتبطاً جداً بطبيعة المجتمع القَبَليّ القديم، والشعر الآن أكثر استجابة لنزعة الضعف الإنساني؛ على أن شعر الفحولة يعود بقوة إذا اقتضت الظروف الاجتماعية عودته، فهو مرتبط بسياق اجتماعي حماسي؛ ولذا نجده في شعر الانتصارات القومية، والمعارك الحربية، واستنهاض الأمة من كبوتها، وابتعاث القيم النبيلة.
• في رأيي أن التجديد في الشعر العربي توقف عند شعر التفعيلة، أما قصائد النثر فقد أضرت بالشعر العربي وخفضت من جماهيريته وتذوقه، فقصيدة النثر قد تخلت عن ميزة أساسية للشعر جعلته ديوان العرب، وهي قابليته للحفظ وسهولة الاستدعاء في المواقف الحياتية والاستشهاد اللغوي، كيف تنظر إلى قصيدة النثر وتأثيرها على الشعر العربي؟
•• الحقيقة -من وجهة نظري- أن قصيدة النثر فرضت وجودها بقوة التحالف النقدي والإعلامي، لا بقوة الفن، لأنها ارتبطت بالثقافة الغربية والحداثة وسعة الاطلاع والانفتاح على الحضارة الإنسانية… إلخ، ومن ثم أصبح الانتساب إليها والدفاع عنها والترويج لها علامة من علامة التفتّح وسعة الأفق وغزارة الاطلاع، بينما يصبح المدافع عن الأصالة والتراث العربي في خندق الرجعية والتخلف، وأحياناً كثيرة (ولتأخذ كلامي على محمل الجدّ لا المزاح)، أقول: أحيانا كثيرة في خندق التطرف الديني! لقد بدأ التجديد في قصيدة النثر بطرح الوزن تماماً، مقابل: تكثيف المجاز، ثم راح مبدعوها يتسولون الموسيقا عند إلقاء قصائدهم في المحافل بإبراز حروف المد واللين، وإطالة الصوت وتنغيمه وترديد بعض الجمل، وتقليد إنشاد الشعر الموزون! ما دمتم في حاجة إلى الموسيقا، فلماذا طرحتموها بداية؟ ثم أدت المبالغة في توظيف المجاز إلى استغلاق النص الأدبي تماماً وحدوث قطيعة مع المتلقين، مما دفعهم إلى تخفيف المجاز، وكتابة قصيدة النثر بلغة الحياة اليومية، والأدهى من ذلك: ما يسمونه قصيدة النثر العامية! ماذا تبقى من الأدب بعد اصطناع لغة الحياة اليومية، وتنحية المجاز والموسيقا؟
• تغرق بعض القصائد الحديثة في الرمزية بحيث يحتاج تذوقها إلى معرفة عميقة بالأساطير اليونانية وأسماء آلهة الإغريق وقصائد الشعراء العالميين، كأن الشاعر يسعى أحياناً لاستعراض معرفته أكثر من قدرته على قول الشعر، كيف تنظر إلى هذه النماذج وتأثيرها على جمهور الشعر؟
•• الحقيقة أن هذه النزعة تفاقمت في ستينيات القرن الماضي، وتراجعت إلى حد كبير في العصر الراهن، لأنها ببساطة شديدة عاجزة عن التواصل مع الجمهور، ولأن البطل الحقيقي الذي يعيش في وجدان القارئ العربي ليس ذلك القادم من التراث الإغريقي، ولا حتى من الحضارات المحلية القديمة مثل الحضارة الآشورية والفرعونية وغيرهما، وإنما البطل الحقيقي (من ناحية القدرة على الوصول إلى وجدان القارئ وتحفيز عاطفته) هو بطل التراث العربي الإسلامي، صلاح الدين الأيوبي، أبو ذر الغفاري، زرقاء اليمامة، وقد ظهر هذا التوجه بقوة في شعر أمل دنقل بعد تجربة واسعة في توظيف الأساطير الفرعونية والرموز الإغريقية التي لم تحقق نجاحاً كبيراً كما حققته قصيدة: (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، و(من مذكرات المتنبي) و(من أوراق أبي ذر الغفاري)، وغيرها، وهذا التوجه الذي راده أمل دنقل موجود بقوة الآن، وستجد أصداء كبيرة له عند الشاعر السوداني محمد عبد الباري تحديداً.
• في العام 2015 كتبت الرؤى الثورية في القصة والرواية، ويتساءل الكثيرون عن جدوى الكتابة في واقعنا الذي يحتاج إلى تغيير عميق، أي ثوري، في المفاهيم والرؤى والممارسات، كيف تنظر إلى دور الأدب في هذه المرحلة؟
•• لنكن صرحاء في أن الأدب المقروء (في عصرنا الراهن) عاجز تماماً عن تغيير الأفكار وتعبئة الجماهير، وحشد الرأي العام، من يقرأ الآن؟ إن القوة الناعمة الكبيرة الآن هي قوة الكلمة المُصوّرة والمسموعة والمرئية، والهيمنة الآن للكلمة التي تتجاور مع الصورة في وسائل التواصل الاجتماعي، أين الأدب من ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن المواد التمثيلية، والتقارير الإخبارية، والبرامج الإذاعية، وحتى المنشورات «الفيسبوكية» كلها نوع ما من أنواع الأدب في صورة عصرية، ولنقل: إن الأدب يمارس دوره من خلال قنوات أخرى مختلفة عن قناة الكتاب المطبوع.
• كيف ترى مستقبل النقد الأدبي العربي في ظل التغيرات التكنولوجية والثقافية السريعة؟
•• لن يستطيع النقد الأدبي ممارسة دوره إلا إذا واكب العصر مع الحفاظ على الثوابت، وواءم الثقافة العربية الإسلامية مع الحرص على التجديد المتّزن المدروس، واستطاع الوصول إلى القارئ بأن يتخفف من الأكاديمية الصارمة، ويتبسط في لغته، ويُقدّم في صورة مناسبة، قادرة على أن تُوْجِد لنفسها مكانا بارزاً بين فنون كثيرة زاحمت الكلمة المقروءة.