قبل حوالي 30 مليون سنة، لم يكن ما نعرفه الآن باسم العالم العربي يتخذ هذا الشكل الذي يتميز بلونه الأصفر الصحراوي على الخريطة، بل كانت منطقة مسكونة بالغابات الاستوائية المطيرة، مع أشجار طويلة كثيفة، وتفرعات للأنهار انتشرت في الكثير من الأماكن. وفي هذه البيئة الخضراء عاش كائن تسيد السلسلة الغذائية في هذا العصر السحيق، إنها الهاينودونتات.
تقول الدكتورة شروق الأشقر، الباحثة في فريق “سلّام لاب” البحثي بجامعة المنصورة والجامعة الأميركية في مصر: “كانت الهاينودونتات مجموعة من الكائنات المفترسة التي عاشت في قارة أفريقيا والجزيرة العربية قبل ظهور الأسود والنمور وبقية الحيوانات المفترسة التي نعرفها حاليا”.
حكاية باستيت
في ربيع عام 2020، انطلق فريق “سلّام لاب” في رحلة استكشافية إلى منخفض الفيوم، وهو منخفض عميق يقع جنوب غرب دلتا نهر النيل في مصر، وبينما كان الفريق يستعد لمغادرة الموقع، لفت انتباه بلال سالم، أحد أعضاء الفريق، بعض حفريات الأسنان البارزة، ومع استمرار عملية الكشف ظهرت أمام أعينهم حفرية لجمجمة كاملة محفوظة في حالة استثنائية.
تقول الأشقر: “كانت الجمجمة ثلاثية الأبعاد، خالية من أي تشوهات، مما جعلها اكتشافا نادرا، يُعَد بمثابة حلم لأي باحث في مجال الحفريات الفقارية، فعادة ما تكون الحفريات جزئية (أي قطعة من الجمجمة)، وحتى إن كانت كاملة فإنها تكون مضغوطة”.
وتضيف: “تعد هذه الجمجمة الأكمل في مكتشفات هذا النطاق الجغرافي من الهاينودونتات، مكننا ذلك من وصف الكائن بدقة كبيرة وإيجاد علاقات لم تكن معروفة من قبل في هذه الفئة من الكائنات الحية، مما مكننا من إعادة النظر في الوضع التصنيفي لمجموعة من الحيوانات التي عاشت في هذا الزمن البعيد”.
وفي تصريح حصلت عليه الجزيرة نت يقول الدكتور هشام سلام، عالم الحفريات الفقارية بالجامعة الأميركية وجامعة المنصورة وقائد فريق “سلام لاب”: “مضت البعثة في ظروف استثنائية سادت العالم أجمع، إذ قررنا قضاء وقت الحجر الصحى في الصحراء، وهو الأنسب للبعد عن أى ملوثات خارجية من جهة ومن جهة أخرى نخوض مغامرة لاستكشاف الماضي السحيق”.
وفي إطار تعاون دولي بقيادة مصرية نجح الباحثون في كشف هوية الكائن صاحب تلك الجمجمة، حيث أظهرت الدراسات التشريحية والتحليلات الإحصائية والمورفولوجية، أن الجمجمة تعود إلى جنس جديد من الهاينودونتات (التي تسمى كذلك ضبعيات الأسنان)، التى كانت هى المفترسات المسيطرة على بيئات تلك المناطق بعد انقراض الديناصورات، إلى أن انقرضت كذلك.

ملك الغابة
نُشرت النتائج في دراسة بدورية “جورنال أوف فيرتبرات بالينتولوجي”، وفيها أطلق الباحثون على هذا الجنس الجديد اسم “باستيتودون”، نسبة إلى الإلهة المصرية القديمة باستت، التي كانت رمزا للحماية والمتعة والصحة الجيدة، وتم تصويرها برأس قطة، ووجه التشابه أن هذا المفترس يتميز بنقص في عدد الأسنان مثل القطط، أما كلمة “أودون” في اليونانية القديمة تعني “سن”.
وتقول الأشقر، وهي الباحثة الرئيسية بتلك الدراسة في تصريحاتها لـ “الجزيرة نت”: “لو تأملنا باستيتودون لوجدنا أنه كان في موضع “ملك الغابة” في تلك الفترة، لأنه امتلك أسنانا حادة كالسكاكين، وعضلات بالجمجمة والفك قوية جدا”.
وتضيف: “ينم ذلك عن قوة عض شرسة، تجعله مفترسا من الطراز الرفيع في غابات غنية بشتى أنواع الحياة، من قردة وأسلاف فرس النهر وأسلاف الفيلة وأسلاف الوبر”.
وقد تمكن العلماء، باستخدام تحليلات الانحدار الإحصائية الدقيقة، من تقدير وزن باستيتودون بحوالي 27 كيلوجراما، مما يضعه في فئة الحجم المتوسط بين أقرانه من الهينودونتات، وقريبا في حجمه من الضبع الحديث أو النمر.

كائن جديد
وأوضحت الأشقر أنه بعد اكتشاف باستيتون وتوضيح شجرة الأنساب الخاصة به، وبعد أن قامت بزيارات عدة من ضمنها زيارة لمتحف التاريخ الطبيعي الأميركي لدراسة التراكيب التشريحية المختلفة لهذه الفئة من الكائنات، فقد مكنهم ذلك من تعديل تصور سابق للعلماء عن مفترس آخر، سمي “التيرودون”.
وكان هناك اعتقاد سابق لدى علماء هذا النطاق بأن هذا الجنس (التيرودون) قد انتشر في أوروبا وأفريقيا، ولكن فريقا منهم تشكك في صحة تلك الفرضية.
وقد أثبتت الدراسة الجديدة أن التيرودون موطنه أوروبا فقط، أما الذي عاش في غابات الفيوم في الحقبة الزمنية نفسها فكان من الهاينودونتات، لذا أعاد الفريق البحثي تسميته، وأطلقوا عليه اسم “سخمتوبس” بدلا من تيرودون، تيمنا بالإلهة سخمت.
وكلمة “أوبس” في اليونانية تعني “وجه”، وجدير بالذكر أنه في الحضارة المصرية القديمة، كانت الإلهة باستت مرتبطة بالمعبودة سخمت، وفي الميثولوجيا المصرية القديمة، كانت باستيت حينما تغضب تتحول لسخمت، وبينت عينات هذا الكائن (سخمتوبس) أنه كان أكبر في الحجم.
وبالإضافة إلى تسمية جنس جديد وضبط شجرة الأنساب الخاصة بهذه الكائنات، فإن العلماء قد توصلو إلى أن الهينودونتات الموجودة في الهند نشأت من تلك التي وجدت في أفريقيا، سمح ذلك -بحسب الأشقر- بالإجابة عن الكثير من الأسئلة التي دارت حول هذا الكائن القديم، لكنها فتحت كذلك بابا للعديد من الأسئلة عن العلاقة بين الهينودونتات التي سكنت في أفريقيا وتلك التي عاشت في أوروبا.
ويقول سلام: “يوفر منخفض الفيوم في مصر نافذة استثنائية تمتد عبر نحو 15 مليون سنة من التاريخ التطوري، وهي فترة ربطت بين الأنواع القديمة وأسلاف الثدييات الحديثة”.
ويضيف: “لا تقتصر أهمية هذه الحقبة على توثيق الانتقال من الاحترار العالمي في عصر الإيوسين إلى التبريد العالمي في عصر الأوليجوسين، بل تكشف أيضا عن الدور الحاسم الذي لعبته هذه التغيرات المناخية في تشكيل النظم البيئية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا”.