تقول العبارة الشهيرة “الضربة التي لا تقتلني تقويني”، وإذا كانت تستخدم في عالم البشر مجازيًا، للدلالة على أن التحديات التي لا تؤدي إلى الهلاك تكسب الفرد قوة وصلابة، فإنها في عالم البكتيريا تتجاوز الحالة المجازية، لتصف آلية واقعية وعملية. هذه الآلية، التي تتعلق بـمقاومة البكتيريا، تتحول بموجبها الضربات التي كانت تستهدف قتلها إلى أدوات تكسبها مزيدًا من القوة والصلابة.
اكتشف فريق بحثي من جامعة بنسلفانيا الأمريكية هذه الآلية الدفاعية المذهلة داخل بعض سلالات بكتيريا “إيكولاي”. قد تساعد هذه الاكتشافات في تطوير وسائل جديدة لمكافحة البكتيريا، خاصةً مع تزايد مقاومتها للمضادات الحيوية، وتسليط الضوء على أهمية فهم الدفاعات الطبيعية للبكتيريا.
ما هي آلية مقاومة البكتيريا المكتشفة؟
تبدأ قصة هذه الآلية بتعرض البكتيريا لهجمات مستمرة من الفيروسات، المعروفة باسم “العاثيات”. تهاجم هذه الفيروسات البكتيريا باستمرار، وتتطور البكتيريا بدورها آليات للدفاع عن نفسها. هذا الصراع طويل الأمد أنتج آلية دفاعية فريدة من نوعها.
في بعض الحالات، تفقد العاثيات القدرة على التكاثر وتتحول إلى ما يسمى بـ”العاثيات الخفية”. هذه العاثيات هي بقايا فيروسية غير نشطة، ولكنها تستمر في الوجود داخل البكتيريا. الأهم من ذلك، أن البكتيريا لا تتخلص من هذه البقايا الفيروسية.
وبمرور الوقت، تورث الأجيال البكتيرية هذه العاثيات الخفية داخل جيناتها. ولم تترك البكتيريا هذا الإرث الفيروسي بلا فائدة، بل طورت آلية ذكية تستغله لصالحها. فهم هذه العملية يمثل خطوة مهمة في معالجة مشكلة المقاومة للمضادات الحيوية.
كيف تعمل هذه الآلية الدفاعية؟
عندما تتعرض البكتيريا لهجوم من فيروس آخر، يتم تنشيط أجزاء من الحمض النووي للعاثيات الخفية. ينتج عن هذا التنشيط بروتينات دفاعية تعمل على منع الفيروس المهاجم من الالتصاق بالخلية أو اختراقها.
يصف الباحثون أن إنزيمًا يسمى “بنكيو” يلعب دورًا رئيسيًا في هذا الدفاع. يعمل هذا الإنزيم كـ”مهندس جيني” طارئ، حيث يعيد ترتيب جزء صغير من الشفرة الوراثية داخل البكتيريا. هذا الترتيب يعيد تنشيط الجينات الفيروسية الساكنة.
تنتج البكتيريا كجزء من هذه العملية بروتينات هجينة، وهي مزيج من جينات البكتيريا وبقايا الجينات الفيروسية القديمة. تتجه هذه البروتينات إلى سطح الخلية، وتعيد تشكيل المستقبلات التي يستخدمها الفيروس للالتصاق. وبذلك، تصبح الخلية غير قابلة للاصابة بواسطة الفيروس المهاجم. يُظهر هذا مثالًا بارزًا على التكيف البكتيري.
نتائج التجارب العملية
أجرى الباحثون تجارب عملية على بكتيريا “إيكولاي” لتقييم فعالية هذه الآلية. قاموا بزيادة إنتاج البروتينات الهجينة، ثم عرضوا البكتيريا للفيروسات. أظهرت النتائج أن زيادة إنتاج البروتينات الدفاعية تقلل بشكل كبير من قدرة الفيروس على إصابة البكتيريا.
ومع ذلك، لاحظ الباحثون أن الفيروسات يمكن أن تتطور في النهاية للتغلب على هذا الدفاع. بعد عدة دورات من التعرض، تمكنت الفيروسات من تطوير بروتينات هبوط جديدة سمحت لها بالالتصاق بالبكتيريا مرة أخرى. “هذا يسلط الضوء على السباق التطوري المستمر بين البكتيريا والفيروسات”، كما قال البروفيسور توماس وود. فهم ديناميكيات هذا السباق التطوري أمر بالغ الاهمية في تطوير استراتيجيات فعالة لمكافحة الأمراض البكتيرية.
الآثار المترتبة والخطوات التالية
تعتبر هذه النتائج مهمة لأنها تقدم فهمًا جديدًا لكيفية دفاع البكتيريا عن نفسها. قد يساعد هذا الفهم في تطوير علاجات جديدة للعدوى البكتيرية، وكذلك في تحسين استخدام البكتيريا النافعة في الصناعة. وبالنظر إلى الانتشار المتزايد للميكروبات المقاومة للأدوية، فإن هذه الأبحاث تعد حاسمة.
يخطط الفريق لمواصلة دراسة العاثيات الخفية الأخرى لتحديد دورها المحتمل في الدفاع البكتيري. وتركز الأبحاث الحالية على 8 عاثيات خفية إضافية. ومن المتوقع أن يتم نشر المزيد من النتائج في العام المقبل، وستساعد في تحديد ما إذا كانت هذه الآلية شائعة في جميع أنواع البكتيريا. ستحتاج المزيد من الدراسات لتقييم مدى إمكانية تطبيق هذه المعرفة على نطاق واسع، إلا أنها تقدم طريقًا واعدًا لمعالجة التحدي المتزايد.













