في الثامن من ديسمبر الجاري، وفي خضم احتفالات الذكرى السنوية الأولى لتحرير سوريا، فاجأت إدارة مطار دمشق الدولي المسافرين العائدين بتوزيع بطاقات تذكارية تحمل عبارة “اطمئن.. نقلوا بيت خالتك لخارج الخدمة“. أثارت هذه العبارة الغامضة جدلاً واسعاً، لكنها بالنسبة للكثير من السوريين تمثل رمزاً مؤلماً لحقبة من الخوف والقمع، وتحديداً فترة الاعتقالات التعسفية التي كانت سائدة في ظل نظام بشار الأسد. هذه المبادرة، وإن كانت تبدو غير تقليدية، تهدف إلى طمأنة العائدين بأن زمن الاعتقالات التعسفية قد انتهى.
العبارة، على بساطتها، تحمل في طياتها تاريخاً طويلاً من المعاناة. ففي سوريا، كان التعبير “أخدوه إلى بيت خالته” بمثابة تعبير مُلطّف للإشارة إلى الاعتقال من قبل فروع المخابرات المختلفة، غالباً ما يتم دون أي إجراءات قانونية أو إبلاغ العائلة. كان هذا يعني اختفاء الشخص قسراً لفترات طويلة، قد تمتد لسنوات أو حتى إلى الأبد.
رسالة رمزية حول الاعتقالات التعسفية
توزيع إدارة مطار دمشق لهذه البطاقات لم يكن مجرد صدفة، بل كان رسالة رمزية واضحة. تهدف الرسالة إلى التأكيد على أن ممارسة الاعتقالات التعسفية، التي كانت تعتبر سمة مميزة لنظام الأسد، قد أصبحت شيئاً من الماضي. كما أنها تعكس رغبة السوريين في التخلص من آثار هذه الحقبة المظلمة وبناء مستقبل أكثر أماناً وحرية.
هذا المصطلح، “بيت الخالة”، نشأ في سياق الخوف والترهيب، وأصبح جزءاً من الثقافة السورية الساخرة والمريرة. كان السوريون يستخدمونه للتعبير عن قلقهم وخوفهم بطريقة غير مباشرة، لتجنب لفت الانتباه إليهم أو التعرض للملاحقة الأمنية.
غالباً ما كانت قصص “بيت الخالة” ترتبط بمطارات دمشق والمعابر الحدودية، حيث كان العديد من العائدين والمسافرين يتعرضون للاعتقال والاختفاء القسري فور وصولهم أو مغادرتهم البلاد.
من بين الحالات الشهيرة، قصة الكاتب مصطفى خليفة، مؤلف رواية “القوقعة”، الذي اعتقل في مطار دمشق الدولي فور عودته من فرنسا بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين. قضى خليفة 13 عاماً في سجن تدمر الصحراوي سيئ السمعة، بسبب هذه التهمة.
تفاعل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي
أثارت هذه المبادرة تفاعلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي. عبّر العديد من المغردين عن دعمهم لهذه الخطوة، معتبرين أنها تعكس تحولاً إيجابياً في سوريا.
كتب أحدهم: “كلمة لا يعرف معناها إلا السوريون، مصطلح ارتبط بسجون ومعتقلات المخابرات الأسدية السابقة، واليوم نراها تُستخدم لتبشير العائدين بالطمأنينة”.
في المقابل، أعرب آخرون عن حذرهم، مشيرين إلى أن العبارة، على الرغم من أنها تبعث على الضحك اليوم، إلا أنها تذكرهم بأيام الرعب والمعاناة. وأكدوا أن هذه الذكريات لا تزال حية في أذهانهم، وأنها لن تمحى بسهولة.
أشار البعض إلى أن هذه المبادرة قد تكون محاولة لتلطيف صورة النظام السابق، وتجاهل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري.
ومع ذلك، يرى الكثيرون أن هذه الخطوة تمثل بداية جديدة لسوريا، وأنها تعكس رغبة في التغيير والإصلاح. إنها محاولة لمواجهة الماضي المؤلم بروح من الدعابة والأمل، وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
يذكر أن رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، صرح مؤخراً بأنه على الرغم من إفراغ العديد من سجون النظام السابق، إلا أنه لا يزال هناك أكثر من 112 ألف شخص مفقود قسراً في سوريا. وشدد عبد الغني على ضرورة بذل جهود مكثفة لكشف مصير هؤلاء المفقودين، وتقديم المسؤولين عن اختفائهم إلى العدالة.
في الختام، تبقى هذه المبادرة مثيرة للجدل، لكنها بالتأكيد تمثل علامة فارقة في تاريخ سوريا. من المتوقع أن تستمر الجهود الرامية إلى كشف مصير المفقودين، وتعزيز سيادة القانون، وتحقيق المصالحة الوطنية في سوريا خلال الأشهر والسنوات القادمة. يبقى التحدي الأكبر هو ضمان عدم تكرار ممارسات القمع الأمني وانتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها البلاد في الماضي.











