عندما نرى أطفالنا السوريين في المهجر يتحدثون لغات أخرى بطلاقة، وتتراجع القدرة على التعبير بالاللغة العربية لديهم، يثير ذلك قلقًا عميقًا. هذه ليست مجرد قضية لغوية، بل هي تحدٍّ وجودي يمسّ الهوية والانتماء للأجيال الشابة، ويهدد بتلاشي الروابط الثقافية مع الوطن الأم. اللغة الأم هي وعاء الذاكرة، وجسر التواصل بين الأجيال، وفقدانها يعني فقدان جزء أساسي من الذات.
تظهر هذه الظاهرة بشكل متزايد في أوساط الجالية السورية في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث يواجه الأطفال بيئة لغوية وثقافية مختلفة تمامًا عن تلك التي نشأوا عليها آباؤهم وأجدادهم. وتشير الإحصائيات الأولية إلى أن نسبة متزايدة من الأطفال السوريين في الخارج يفضلون التحدث بلغة البلد المضيف على اللغة العربية، مما يثير مخاوف بشأن مستقبل اللغة والثقافة العربية في الشتات.
الظاهرة المؤلمة لفقدان اللغة العربية
من خلال زيارات ميدانية لعدد من العائلات السورية المقيمة في ألمانيا وفرنسا، لوحظ أن العديد من الأطفال يجدون صعوبة في فهم أو التحدث باللغة العربية، حتى مع والديهم. البعض منهم يطلبون ترجمة الكلمات العربية البسيطة، ويعبرون عن تفضيلهم للغة الألمانية أو الفرنسية في التواصل اليومي. هذا التراجع في استخدام اللغة العربية ليس مجرد انعكاس للبيئة اللغوية المحيطة، بل هو نتيجة لعدة عوامل متداخلة.
الآباء، في كثير من الأحيان، يفضلون التحدث بلغة البلد المضيف مع أطفالهم، اعتقادًا منهم أن ذلك يسهل عليهم الاندماج في المجتمع الجديد. ولكن هذا التوجه، على الرغم من حسن نيته، قد يؤدي إلى إضعاف اللغة العربية لدى الأطفال، وتقليل فرصهم في التواصل مع أجدادهم وأقاربهم الذين لا يتقنون لغات أخرى.
أسباب التحدّي
- البيئة اللغوية المهيمنة: المدرسة، الإعلام، الأصدقاء، وحتى الشارع، كلها عوامل تفرض لغة غير العربية على الأطفال.
- نقص البرامج التعليمية: قلة المدارس والمراكز الثقافية التي تقدم برامج تعليمية عربية متخصصة للأطفال في الخارج.
- تراجع استخدام اللغة في المنزل: اعتماد الأهل على لغة البلد المضيف في التواصل اليومي مع أطفالهم، مما يقلل من تعرضهم للغة العربية.
بالإضافة إلى ذلك، يساهم غياب الدعم المؤسسي والاجتماعي للغة العربية في تفاقم هذه المشكلة. فلا توجد مبادرات كافية لتعزيز استخدام اللغة العربية في الخارج، وتشجيع الأجيال الشابة على الحفاظ عليها.
الأثر على الهوية والانتماء
اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية. فقدان اللغة العربية يعني فقدان جزء من هذه الهوية، وتقويض الروابط التي تربط الأجيال الشابة بوطنهم الأم. الطفل الذي يفقد لغته الأم يفقد جزءًا من ذاته، ويصبح أقل ارتباطًا بموروثه الثقافي.
وعلى المدى الطويل، قد يؤدي هذا إلى نشوء جيل يشعر بالغربة عن جذوره، حتى داخل أسرته. قد يجدون صعوبة في فهم التقاليد والعادات العربية، والتعبير عن هويتهم الثقافية بشكل كامل. وهذا يمكن أن يؤثر سلبًا على شعورهم بالانتماء، ويزيد من خطر اندماجهم الكامل في المجتمع الجديد على حساب هويتهم الأصلية.
تؤكد الدراسات الاجتماعية على أن الحفاظ على اللغة الأم يعزز الثقة بالنفس، ويحسن الأداء الأكاديمي، ويساهم في بناء مجتمع متماسك. لذلك، فإن الحفاظ على اللغة العربية لدى الأجيال الشابة في الخارج ليس مجرد مسألة ثقافية، بل هو استثمار في مستقبلهم ومستقبل مجتمعاتهم.
الحلول العملية والإجراءات اللازمة
- تعزيز تعليم اللغة العربية: من خلال إدراج اللغة العربية في المناهج الدراسية، وتوفير برامج تعليمية مكثفة للأطفال في الخارج.
- تشجيع استخدام اللغة في المنزل: من خلال تخصيص وقت يومي للتحدث باللغة العربية في المنزل، وقراءة القصص العربية للأطفال، ومشاهدة البرامج التلفزيونية العربية معهم.
- دعم المبادرات الثقافية: من خلال دعم المدارس والمراكز الثقافية التي تقدم برامج تعليمية عربية، وتنظيم الفعاليات الثقافية التي تحتفي باللغة العربية.
- استخدام التكنولوجيا: من خلال تطوير تطبيقات ومواقع إلكترونية تعليمية تفاعلية، تساعد الأطفال على تعلم اللغة العربية بطريقة ممتعة وشيقة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأهل والمجتمع السوري في الخارج العمل معًا لتعزيز استخدام اللغة العربية في جميع جوانب الحياة اليومية. يجب أن تكون اللغة العربية لغة التواصل والتعبير، لغة الثقافة والإبداع، لغة الهوية والانتماء.
من المتوقع أن تطلق وزارة التربية السورية مبادرة جديدة في بداية العام القادم لدعم تعليم اللغة العربية للأطفال السوريين في الخارج، بالتعاون مع المنظمات الدولية والمحلية. وستشمل هذه المبادرة توفير الكتب المدرسية والمواد التعليمية، وتدريب المعلمين، وتقديم الدعم المالي للأسر المحتاجة. يبقى التحدي الأكبر هو ضمان تنفيذ هذه المبادرة بشكل فعال، وتحقيق النتائج المرجوة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.













