طرابلس- لم يمرّ مصرع رئيس أركان الجيش الليبي الفريق أول محمد علي الحداد، مساء الثلاثاء، كحادث أمني عابر، بل فتح بابا واسعا لنقاش أعمق حول موقع المؤسسة العسكرية في ليبيا، وحدود نفوذ الدولة، وحساسية منصب يُعدّ من أكثر المواقع تداخلا بين الجانبين العسكري والسياسي منذ سنوات. هذا الحادث يثير تساؤلات حول مستقبل الأمن والاستقرار في البلاد، خاصة في ظل التحديات السياسية المستمرة.
وكان الحداد قد قضى إثر تحطم الطائرة التي كانت تُقلّه رفقة عدد من كبار القادة العسكريين، بعد وقت قصير من إقلاعها من مطار إيسنبوغا الدولي في العاصمة التركية أنقرة، أثناء عودتهم إلى طرابلس عقب زيارة رسمية. التحقيقات جارية لتحديد الأسباب الدقيقة للحادث، بينما تتجه الأنظار نحو التداعيات المحتملة على المشهد الأمني والسياسي الليبي.
لماذا يُعد منصب رئيس الأركان موقعا حساسا في ليبيا؟
يرى الضابط والمحلل العسكري عادل عبد الكافي أن حساسية منصب رئيس الأركان في ليبيا لا ترتبط فقط برتبته، بل بطبيعة السياق الذي يعمل فيه، موضحا أن رئيس الأركان لا يقود جيشا موحدا بالمعنى التقليدي، وإنما “يدير واقعا عسكريا متشظيا”. هذا التشتت يعود إلى سنوات من الصراع والفوضى التي شهدتها ليبيا بعد عام 2011.
ويضيف عبد الكافي أن المنصب تحوّل منذ عام 2011 إلى موقع إدارة توازنات، بين وحدات نظامية وتشكيلات مسلحة ذات نفوذ ميداني، مما يجعل شاغله مطالبا بالتنسيق والاحتواء أكثر من إصدار الأوامر العسكرية المباشرة. هذا الواقع يجعل المنصب عرضة للضغوطات السياسية والمحلية.
وبحسب عبد الكافي، فإن هذا التعقيد يفسر لماذا يصبح غياب رئيس الأركان مؤثرا، حتى مع استمرار الهياكل الإدارية للمؤسسة العسكرية. غياب القيادة المركزية قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الداخلية.
ماذا يعني غياب رئيس الأركان للمشهد الأمني؟
يرى الناشط السياسي رمضان معيتيق أن تأثير غياب رئيس الأركان يتجاوز البعد العسكري إلى هشاشة الإطار السياسي الحاضن للمؤسسات. معيتيق يشدد على أهمية الاستقرار السياسي كعنصر أساسي لضمان الأمن القومي.
ويقول معيتيق إن ليبيا تمر أصلا بمرحلة انسداد سياسي، مما يجعل أي فراغ في موقع سيادي عرضة للاستثمار من أطراف مختلفة، مضيفا أن الحدث لا يقود تلقائيا إلى انفجار أمني، لكنه يفتح المجال لإعادة تموضع هادئة لبعض القوى. هذا التموضع قد يؤثر على مسار المفاوضات السياسية الجارية.
ويرى أن الخطر الحقيقي لا يكمن في غياب شخص، بل في غياب توافق سياسي واضح يضمن استمرارية المؤسسات بعيدا عن الأشخاص. التوافق السياسي ضروري لبناء مؤسسات قوية ومستدامة.
ما الدور الذي يلعبه موقع رئاسة الأركان في توازنات السلطة؟
يوضح المحلل السياسي حازم الرايس أن منصب رئيس الأركان في ليبيا لا يمكن فصله عن معادلة السلطة، حتى وإن لم يكن منصبا سياسيا رسميا. الرايس يؤكد على الترابط الوثيق بين المؤسسة العسكرية والسياسة في ليبيا.
ويشير الرايس إلى أن شاغل المنصب يؤدي دورا محوريا في التوازن بين المجلس الرئاسي والحكومة والقوى المسلحة، لافتا إلى أن رئيس الأركان بات جزءا من منظومة إدارة الاستقرار، لا مجرد قائد عسكري. هذه المنظومة تتطلب تنسيقا وتعاونا بين مختلف الأطراف.
وبحسب الرايس، فإن حساسية الموقع تزداد في ظل ارتباط الملف العسكري بالمسارات الدولية، مما يجعل أي تغيير فيه محاطا بحسابات داخلية وخارجية. الدعم الدولي يلعب دورا هاما في تعزيز الاستقرار الأمني في ليبيا.
ما العلاقة بين رئاسة الأركان والتشكيلات المسلحة؟
يتفق المحللان عبد الكافي والرايس على أن العلاقة بين رئاسة الأركان والتشكيلات المسلحة تظل من أكثر الملفات تعقيدا في ليبيا، ويوضح العميد عبد الكافي أن رئاسة الأركان لا تملك سيطرة كاملة على جميع التشكيلات، مشيرا إلى أن العلاقة تقوم في كثير من الأحيان على التفاهمات والتنسيق، وليس على التسلسل القيادي الصارم. هذا التنسيق ضروري لتجنب الصراعات الداخلية.
بينما يرى الرايس أن هذا الواقع يضع رئيس الأركان أمام تحدي إدارة النفوذ المسلح دون امتلاك أدوات الدولة الكاملة، وهو ما يجعل المنصب عرضة للاهتزاز عند غياب شخصية قادرة على إدارة هذه الشبكة المعقدة. تعزيز سلطة الدولة هو الحل الأمثل لتحقيق الاستقرار.
هل نحن أمام فراغ قيادي أم أزمة أعمق؟
يطرح الحادث -وفق المحللين- سؤالا يتجاوز مسألة الخلافة: هل المشكلة في غياب الأشخاص أم في بنية المؤسسة العسكرية نفسها؟ حيث يرى رمضان معيتيق أن ليبيا ما زالت تدير ملفها الأمني بمنطق الأشخاص، محذرا من أن استمرار هذا النهج يجعل المؤسسات عرضة للاهتزاز مع كل تغيير مفاجئ. التحول إلى إدارة مؤسسية هو ضرورة ملحة.
في المقابل، يشير عبد الكافي إلى أن المؤسسة العسكرية لم تتوقف عن العمل بعد الحادث، مما يعكس وجود حد أدنى من الاستمرارية، لكنه يؤكد أن الحفاظ على هذا التماسك يتطلب قرارات سياسية واضحة وسريعة. هذه القرارات يجب أن تكون شاملة وتراعي جميع الأطراف.
وتميل تقديرات المحللين إلى أن الحادث -بحد ذاته- لا يعني انزلاقا وشيكا إلى مواجهة واسعة، لكنه قد يتحول إلى عامل توتير إذا لم تُدر المرحلة اللاحرة بحذر. المراقبة الدقيقة للتطورات السياسية والأمنية أمر ضروري.
وبينما تستمر التحقيقات الفنية، يبقى التحدي الحقيقي سياسيا وأمنيا يتمثل في قدرة الدولة على إدارة هذا الغياب ضمن منطق المؤسسة، لا منطق الفراغ، في بلد ما زال يبحث عن معادلة مستقرة بين السلاح والسلطة. من المتوقع أن يعلن المجلس الرئاسي عن تعيين رئيس أركان جديد خلال الأسبوع القادم، مع التركيز على اختيار شخصية قادرة على تحقيق التوازن بين مختلف الأطراف.













