نشرت في
اعلان
من أهم ما يميّز مقترحَ إنهاء الحرب في غزة الذي قدّمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنه لا يشبه ما سبقه من خطط ومقترحات. وقد أصبح العالم كلّه ينتظر ردّ حماس بعد أن حظي المقترح بدعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فالبنود العشرون التي طرحها ترامب – بعد لقاءات عدة عقدها مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير وغيره من شخصيات – وإن تكرّرت في أكثر من مسودّة سابقة وخيضت لأجلها صولاتٌ وجولات تفاوضية في عواصم عربية مثل الدوحة والقاهرة، تأتي هذه المرة بنكهة مختلفة، لا تملك الحركة المسلحة أمامها ترفَ المناورة أو شراء الوقت.
من جهة، يمهل ترامب حماس ثلاثة أو أربعة أيام كحد أقصى لقبول الخطة والتنحي عن المشهد. وهو في الوقت نفسه، يمنح نتنياهو، الذي بات يحتل أكثر من 75% من قطاع غزة، تفويضًا كاملًا بالتحرك كما يشاء.
ومن جهة أخرى، يحظى المقترح بتزكية عربية وإسلامية كاملة، تسحب الغطاء عن الفصيل الفلسطيني وتضغط باتجاه إتمام الاتفاق، وإنهاء هذه الدوامة التي بدت وكأنها ستبتلع أكثر من لاعب وتجرّ لصراعات مكلّفة تتعدّى حدود غزة.
حماس في حلقة ضيقة
في السابق، اعترضت حماس على عدة بنود في الورقة الحالية، بينها نزع السلاح وغياب جدول زمني واضح للانسحاب الإسرائيلي، ، فضلاً عن منح نتنياهو الحق في العودة إلى القتال عند أي خلل في تطبيق الاتفاق، لكن كان لديها العديد من أوراق الضغط والمساومة: الرهائن الذين تحتجزهم عندها، التأييد الشعبي في غزة، ورعاية دول مثل قطر وتركيا وإيران، لكن الحركة اليوم محاصرة في حلقة ضيقة.
المجاعة والحصار
بعد سنتين من الحرب، تحوّل قطاع غزة إلى جحيم لساكنيه، كما يصفه مفوض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني، مدعومًا بعشرات التقارير الدولية التي تؤكد أن 90% من المباني قد هدّمت، وأن المجاعة التي أعلنت عنها الأمم المتحدة في شمال القطاع في أغسطس/ آب الماضي، باتت تتفشى في الوسط والجنوب، حيث يتكدس مئات آلاف النازحين، في ظل عملية إسرائيلية برّية لاحتلال مدينة غزة.
وأمام حصار اقتصادي خانق بسبب إغلاق المعابر، وفي ظل غياب كامل لأي من مقومات الحياة، وانهيار البنية التحتية والنظام الصحي بفعل القصف الذي طال المستشفيات وعمال الإغاثة، لم يعد أمام سكان غزة من مخرج سوى الرحيل أو الموت.
في هذا السياق، ينحسر الغطاء والدعم الشعبي عن حركة حماس، تحت وطأة الرغبة في النجاة والحاجة الملحّة لإنهاء الحرب. وقد بدأت تظهر في القطاع جماعات مسلحة متمرّدة على حكم حماس، مثل مليشيا “أبو الشباب“، ما يقلّص هامش المناورة لدى الحركة ويفسح الطريق أمام ظهور مشهد داخلي جديد.
وعلى الصعيد السياسي أيضًا، ناشدت 16 شخصية محلية بارزة في قطاع غزة وعلى رأسها رئيسُ غرفة التجارة الفلسطينية إياد أبو رمضان الرئيس دونالد ترامب لممارسة الضغط على إسرائيل لوقف القتال وإنهاء الحرب.
سحب الغطاء الدولي
هذه المرة، حظي المقترحُ الأمريكي بدعم عربي وإسلامي، خصوصا في ظل مشهد اقليمي، إما معادٍ أو متغيّر.
-
المحور الإيراني والجماعات التي تدور في فلكه (الحوثيون وحزب الله) يتعرض لضغوط عسكرية واقتصادية كبيرة، سواء عبر إعادة فرض عقوبات على الجمهورية الإسلامية بعد تفعيل “آلية الزناد”، أو احتمال إعادة فتح جبهة مباشرة بين طهران وتل أبيب، فضلًا عن التغيّرات الجوهرية التي طرأت على هذا المحور بعد تراجع قوة حزب الله واغتيال أمينه العام حسن نصر الله، وسقوط نظام الأسد في سوريا، وشروع حكّام دمشق وبيروت في نزع سلاح الفصائل الفلسطينية.
-
المحور المعادي للإخوان المسلمين، ويضم السعودية والإمارات ومصر والأردن وغيرها، المعروف بموقفه الرافض لحماس.
-
المحور التركي-القطري الداعم لتنظيم الإخوان المسلمين، والذي يبدو أكثر براغماتية وتغليبا لمصالحه.
في هذا السياق، يرى مراقبون أن واشنطن وإسرائيل عملتا على خلق أرضية لدى هذه المحاور لدفعهما إلى قبول المقترح. ففي وقت سابق، ضغط ترامب على الأردن ومصر عبر مقترح لتهجير سكان غزة وتوطينهم في هاتين الدولتين، وإفساح المجال لإقامة مشروع يحوّل القطاع بواجهته البحرية إلى “ريفييرا الشرق الأوسط“، وهو ما لم تقبله القاهرة.
إلا أن الضجة التي أحدثها مشروع تحويل غزة إلى منتجع سياحي قد خَفّت حدّتها بعد الجولة التي قام بها ترامب لاحقًا إلى الدول الخليجية، والأموال والهدايا التي تلقّاها من قادة قطر وعلى رأسها الطائرة الرئاسية التي منحها له الأمير تميم بن حمد .
فلدى الدوحة، التي تستضيف قاعدة العيديد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، استثماراتٌ بمئات الملايين في أمريكا عمومًا ومع مؤسسة ترامب خصوصًا، ومن بينها عملية إنقاذ عقار 666 تملكه شركةُ جاريد كوشنر صهرِ الرئيس، في الجادة الخامسة لنيويورك.
مع ذلك، كانت الضربة الإسرائيلية المفاجئة التي استهدفت قادة حماس في الدوحة بمثابة رسالة واضحة: مصالح قطر باتت مهددة إذا استمرت في رعاية الحركة الفلسطينية المسلّحة. ورغم اعتذار نتنياهو أو أسفه أيّا كانت صيغة ناقله وراويه، لأمير قطر لاحقّا، لم يُظهر أي معارضة لموقف وزير دفاعه يسرائيل كاتس الذي توعّد بضرب قادة حماس في أيّ عاصمة يتواجدون فيها.
المكسب الدولي لقطر
ترى صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن الدوحة تعيش حاليًا لحظة دولية فارقة بعد الضربة الإسرائيلية. فقد نجحت في تحويل دورها المعقّد – كمموّل لحماس ووسيط دولي وحليف للولايات المتحدة – إلى أكبر مكسب سياسي ودبلوماسي لها من الحرب في غزة ، ما يمنحها تأثيرا كبيرا على مستقبل غزة، وعلى السياسة الإسرائيلية في المنطقة ككلّ.
أما تركيا، فإن رئيسها رجب طيب أردوغان يضغط على حركة حماس لتوقيع الاتفاق. فمع أن أنقرة تُعتبر من أشد المنتقدين للحرب الإسرائيلية وتصفها بـ”الإبادة الجماعية”، إلا أنها لا تستطيع تجاهل مصالح أخرى، مثل استثماراتها في سوريا، الدولة الاستراتيجية في المنطقة، التي تسعى لإبرام اتفاق أمني مع إسرائيل، وتحسين علاقتها بالبيت الأبيض.
ففي وقت سابق، أعلن ترامب أن تركيا تدرس شراء طائرات إف-16 وإف-35 ومنظومة باتريوت من الولايات المتحدة، وأنه سيتحدث في هذا الشأن مع أردوغان الرئيسِ القوي والعظيم وفق تعبير سيد البيت الأبيض يوم إعلانه عن مقترح غزة.
وكان أردوغان قد زار مؤخرًا البيت الأبيض في خطوة هي الأولى منذ ست سنوات، ويعتقد مراقبون أنها هذه اللحظة تمثل فرصة لأنقرة لإعادة ضبط علاقتها مع واشنطن، في ظل الصراعات الإقليمية والمنافسة المحتدمة مع روسيا والصين.