شهدت السنوات الأخيرة تحولاً ملحوظاً في وجهات العلماء والباحثين، حيث بدأت أعداد كبيرة منهم بمغادرة الولايات المتحدة بحثاً عن فرص أفضل وبيئات أكثر استقراراً. وقد أثرت قرارات وسياسات حكومية أمريكية في هذا التوجه، مما دفع دولاً أخرى إلى الاستعداد لاستقبال هذه الكفاءات. هذا التوجه يثير تساؤلات حول قدرة الجامعات العربية على الاستفادة من هذه الهجرة واستقطاب هذه العقول لتعزيز البحث العلمي والتعليم العالي في المنطقة.
تعتبر فرنسا من أبرز الدول التي استقبلت العلماء المغادرين للولايات المتحدة، وذلك من خلال تسهيل إجراءات الهجرة وتوفير الدعم اللازم. أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تخصيص 100 مليون يورو لجذب الباحثين الدوليين، معتبراً أن تقليص التمويل المخصص للبحث العلمي في الولايات المتحدة يشكل “خطأ فادحاً”. وقد شهدت برامج استقبال العلماء في الجامعات الفرنسية إقبالاً كبيراً، حيث تقدم بطلب للانضمام إليها قرابة 300 عالم أمريكي خلال ثلاثة أسابيع فقط من إعلانها.
تحديات واستعدادات الجامعات العربية لاستقطاب العلماء
بالتزامن مع هذه التطورات، تسعى دول أخرى مثل كندا إلى استقطاب الكفاءات العلمية. أطلقت جامعة كوينز الكندية مبادرة خاصة لاستقبال طلاب الدكتوراه الأمريكيين، بينما يستعد برنامج “اختر أوروبا للعلوم” للاستثمار بحوالي 500 مليون يورو بين عامي 2025 و 2027 لجذب الباحثين في مختلف المراحل المهنية. يثير هذا السباق العالمي لاستقطاب العلماء تساؤلاً حاسماً حول مكانة الجامعات العربية في هذا السياق.
يرى الدكتور مصطفى العبسي، الأستاذ بكلية الطب جامعة مينيسوتا، أن بعض الدول العربية تتمتع بظروف مؤاتية لاستقبال العلماء، معتبراً دول الخليج مثل قطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في الصدارة بفضل توفر التمويل الوفير والبنية التحتية المتطورة، بالإضافة إلى الأجندات الطموحة التي تتبناها. بينما يمكن لمصر والمغرب وتونس الاستفادة أيضاً من هذا الوضع، إلا أنهما تواجهان تحديات تتعلق بالتمويل المحدود ومسألة هجرة الأدمغة.
التمويل والبنية التحتية كعوامل أساسية
يؤكد الدكتور العبسي أن العديد من الجامعات العربية تعمل حالياً على تطوير قدراتها، معتبراً أن نقل المعرفة وتعزيز المكانة العالمية من خلال جذب العلماء الأمريكيين، وخاصة المغتربين منهم، يمكن أن يحقق مكاسب كبيرة إذا توفرت الاستثمارات المستدامة والبنية التحتية المناسبة والسياسات الداعمة. إن توفير بيئة بحثية محفزة ومجهزة بالأدوات والموارد الحديثة أمر بالغ الأهمية لجذب الكفاءات العلمية.
في المقابل، يشير الدكتور وائل الدليمي، أستاذ الصحة العامة في جامعة كاليفورنيا سان دييغو ورئيس مجلس إدارة جمعية تقدم العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي، إلى أن استقطاب العلماء يتطلب توفير ظروف بحثية مواتية، والقدرة على المنافسة مالياً، بالإضافة إلى ضمان الحريات الأكاديمية وحرية التعبير. يضيف الدكتور الدليمي أن هذه العوامل هي نفسها التي ساهمت في جذب العلماء إلى دول مثل سنغافورة.
تغير المناخ العلمي في الولايات المتحدة
ويبدي الدكتور هاني جودارزي، الأستاذ المشارك في قسم الفيزياء الحيوية والكيمياء الحيوية في جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو، ملاحظته حول زيادة اهتمام بعض زملائه الجامعيين بفكرة الهجرة إلى الخارج، خاصةً أوروبا، بعد أن كانت هذه الفكرة غير مطروحة قبل سنوات. يعزو ذلك إلى حالة عدم اليقين بشأن التمويل، بالإضافة إلى تحديات أخرى مثل قيود السفر. ويرى أن الدول التي تلتزم بتمويل العلوم وتوفر بنية تحتية قوية ستكون الوجهة المفضلة للعلماء.
ويضيف الدكتور جودارزي أن سمعة الولايات المتحدة كدولة رائدة في الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا قد تضررت، لكنه يشدد على ضرورة إجراء المزيد من الدراسات لتقييم حجم هذا التأثير بدقة. هناك حاجة لفهم الأسباب الحقيقية وراء هجرة العلماء وتداعياتها المحتملة على المشهد العلمي العالمي.
نظرة مستقبلية: خطط وبرامج لاستقطاب الكفاءات
في سياق جهود استقطاب الكفاءات، أضافت الصين مؤخراً فئة جديدة من التأشيرات (تأشيرة “كي”) للمواهب الشابة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، لتسهيل قدومهم والمساهمة في منظومة الابتكار الصينية. يشمل ذلك توفير مزايا إضافية فيما يتعلق بعدد مرات الدخول ومدة الإقامة. وتعكس هذه الخطوة التزام الصين بتعزيز دورها في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي.
وعلى الرغم من أن عدد المجلات العلمية العربية لا يزال متواضعاً، حيث يمثل أقل من 1% من المؤشرات العالمية، إلا أن هناك جهوداً متزايدة لتعزيز البحث العلمي في المنطقة. يظهر تصنيف أفضل الجامعات العربية لعام 2026 تفوقاً لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، يليها جامعة قطر وجامعة خليفة. هذا يشير إلى وجود بعض المؤسسات التعليمية التي تسعى جاهدة لتحقيق التميز في البحث العلمي.
ومع استمرار التغيرات في السياسات العلمية والتمويلية في الولايات المتحدة، من المتوقع أن تستمر هجرة العلماء نحو وجهات أخرى. ستحتاج الجامعات العربية إلى تطوير استراتيجيات فعالة ومبتكرة للاستفادة من هذه الفرصة، مع التركيز على توفير التمويل الكافي، والبنية التحتية المتطورة، والحرية الأكاديمية اللازمة. من الضروري أيضاً تعزيز التعاون بين الجامعات العربية والمؤسسات البحثية الدولية لتبادل الخبرات والمعرفة.













