بعد مرور شهر على المجزرة المروعة التي شهدها الساحل السوري في 7 مارس/آذار من هذا العام، والتي راح ضحيتها المئات من المدنيين العزل، لا يزال الغضب والحزن يخيمان على المجتمع السوري.
هذه المجازر، التي نفذتها فصائل غير منضبطة وفق تصريحات الرئاسة السورية، لم تكن مجرد أحداث عنف عابرة، بل كشفت عن خطورة استمرار خطاب الكراهية والتحريض الطائفي الذي يغذي مثل هذه الجرائم البشعة.
في ظل هذه الأجواء المشحونة، ارتفعت أصوات السوريين مطالبةً مفتي الجمهورية بإصدار فتوى واضحة تحرم قتل السوريين، وتضع حدًا للخطاب التحريضي الذي يمزق النسيج الاجتماعي للبلاد.
مطالبات شخصيات اعتبارية ومواقف متباينة
ورصدت “يورونيوز” موجة من الدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث طالبت شخصيات سياسية ودينية بضرورة أن تكون أولى فتاوى دار الإفتاء في سوريا هي حظر القتل والتحريض على العنف.
هذه الدعوات لاقت تأييدًا واسعًا من قبل العديد من المواطنين الذين أعربوا عن استيائهم من استمرار الصمت الرسمي حيال هذه المسألة.
“من غير المقبول أن يبقى دار الإفتاء صامتًا أمام ما يحدث”، قال أحد الناشطين في اللاذقية -فضل عدم ذكر اسمه خوفاً من عمليات ملاحقة بحقه-، مشيرًا إلى أن خطاب الكراهية المستمر يساهم بشكل مباشر في تأجيج الصراع الطائفي. وأضاف: “نحن بحاجة إلى موقف ديني واضح يؤكد أن الإسلام بريء من هذه الجرائم، وأن سفك الدماء دون وجه حق هو خطيئة كبرى”.
ومع ذلك، هناك من يرى أن مطلب إصدار مثل هذه الفتوى قد يكون غير ضروري، إذ يعتبر البعض أن هذه الأمور من البديهيات التي لا ينبغي التشديد عليها. يقول أبو ثائر (50 عامًا)، وهو من سكان دمشق، في تصريح لـ”يورونيوز”: “من المعيب أن نطالب بإصدار فتوى تحظر القتل، لأن هذا الأمر يجب أن يكون مفهومًا ضمنيًا لدى الجميع. وإن لم تصدر، فهذا يعني أن هناك نوايا مبيتة لجر البلاد إلى المزيد من القتل والاقتتال الطائفي”.
نداءات المواطنين: كفانا سفك دماء
ويؤكد السوريون أن استمرار هذا الصمت الديني يعمق الانقسامات ويمنح الفصائل المسلحة المتشددة مساحة أوسع لنشر أفكارها المتطرفة.
“ما يحدث في الساحل ليس مجرد حرب، بل هو إبادة طائفية”، يقول أبو محمد (45 عامًا)، وهو من سكان مدينة حمص، والتي شهدت انتهاكات طائفية خلال الأشهر الماضية. ويضيف أبو محمد: “نحن نرى يوميًا كيف يتم استخدام الدين لتبرير القتل والتهجير. لماذا لا يخرج مفتي سوريا ليقول بصوت عالٍ إن الإسلام بريء من هذه الجرائم؟ نحن بحاجة إلى كلمة حق توقف سفك الدماء”.
من جهتها، تشير السيدة فاطمة، وهي أم لثلاثة أطفال فقدت زوجها في هجوم طائفي بمنطقة حماة، إلى أن استمرار التحريض على القتل يؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي السوري. تقول بحزن: “كل يوم نسمع خطابات تحريضية تُبث عبر الإنترنت أو في المساجد غير الخاضعة للرقابة. هذه الخطابات تزرع الكراهية بين الناس وتتسبب في ارتكاب جرائم بشعة. نريد من مفتي سوريا أن يقف ويقول إن هذا ليس من الإسلام، وأن يدعو الجميع إلى التسامح والتعايش”.
خطاب الكراهية: إلى أين يقود سوريا؟
ويشير خبراء، إلى أن الخطاب التحريضي الذي تتبناه بعض الفصائل المسلحة المتشددة لا يقتصر فقط على القتال العسكري، بل يتعدى ذلك إلى استهداف المدنيين بناءً على انتماءاتهم الدينية أو العرقية. هذا النوع من الجرائم يُعتبر نتيجة مباشرة لثقافة الكراهية التي تغذيها هذه الجماعات، والتي تجد في الدين مبررًا لأعمالها الوحشية، وفق تعبيرهم.
وفي منشور على فيسبوك، يقول أحمد، وهو ناشط مجتمعي من محافظة إدلب: “إذا لم يتوقف هذا الخطاب، لن يتبقى شيء من سوريا”. ويضيف: “نحن نشاهد كيف يتم استهداف القرى والمدن بناءً على طائفية سكانها. إذا لم يتدخل العلماء ورجال الدين لإيقاف هذا الجنون، فإن سوريا ستتحول إلى مجرد ذكرى لبلد كان موجودًا يومًا ما”.
خطوة جديدة نحو توحيد المرجعية الدينية
في خطوة لافتة، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، في 28 مارس/آذار 2025، قرارًا بتشكيل مجلس أعلى للإفتاء في سوريا، يتولى إصدار الفتاوى في المستجدات والنوازل والمسائل العامة. برئاسة الشيخ أسامة الرفاعي، الذي عُين مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية، يعيد القرار الحياة إلى منصب المفتي العام الذي كان النظام المخلوع بقيادة بشار الأسد قد ألغاه عام 2021.
ضم المجلس الجديد 14 عالماً من أبرز الشخصيات الشرعية في البلاد، وهم: علاء الدين القصير، خير الله طالب، أنس عيروط، أنس الموسى، إبراهيم شاشو، نعيم عرقسوسي، محمد أبو الخير الشكري، محمد راتب النابلسي، عبد الفتاح البزم، محمد وهبي سليمان، مظهر الويس، عبد الرحيم عطون، سهل جنيد، وإبراهيم الحسون.
أهداف المجلس ومهامه
يهدف المجلس إلى توحيد المرجعية الدينية في سوريا وتعزيز منهج الاعتدال والوسطية، وتقديم الرأي الشرعي في القضايا العامة. كما يتولى المجلس تعيين المفتين ولجان الإفتاء في المحافظات، وتحديد مهامهم، ومتابعة شؤون دور الإفتاء وتقديم الدعم والمشورة.
وفي كلمته خلال مؤتمر الإعلان عن المجلس، أكد الرئيس الشرع على أهمية إعادة منصب المفتي العام بعد أن ألغاه النظام المخلوع، مشددًا على أن الفتوى يجب أن تتحول إلى مسؤولية جماعية عبر مجلس علمي مؤسسي، يعمل على التحري والدقة، ويوجه الخطاب الديني نحو الاعتدال، ويحسم القضايا الخلافية بما يحفظ وحدة المجتمع.
آلية عمل المجلس
ينص القرار الرئاسي على أن يتخذ المجلس قراراته بالأغلبية، مع ترجيح رأي الرئيس في حال تساوت الأصوات. كما يتولى المفتي العام الإشراف المباشر على أعمال المجلس، وتنفيذ قراراته وتوصياته. وتهدف هذه الآلية إلى ضمان اتخاذ قرارات متوازنة ومستنيرة، بعيدًا عن التأثيرات السياسية أو الطائفية.
غياب الصوت الديني المستقل
رغم هذه الخطوة الجديدة، يبقى السؤال قائماً حول مدى قدرة المجلس على مواجهة التحديات الكبيرة التي تفرضها البيئة السورية المعقدة. فالتأثير السياسي المباشر، وغياب المؤسسات الدينية المستقلة، والخوف من الاستغلال السياسي، كلها عوامل تعكس تعقيد المشهد السوري.