عشت أحلم بمدن أنيقة تكتسي بالاخضرار.. وأرَّقني هذا الحلم. ورحت أبحث عن الوسائل الممكنة لتحقيقه.. فإذا كانت المدن التي عرفت باخضرارها.. نزلت هي على الخضرة.. فالبيئة حيوية ومستجيبة للمزيد من الحياة، ومن السهل تعميم التشجير.. فهل يستطيع الإنسان أن يجلب الخضرة للمدن الصحراوية القاحلة؟ وأي نوع من الشجر يستطيع مقاومة الظمأ وتحمل الجفاف والحرارة الشديدة؟
وصرت أقرأ كل ما أعثر عليه من بحوث وكتب عن الغابات والتشجير والتصحُّر.. ولكن ما أندر الكتب التي تتحدث عن المناطق الصحراوية.. وإذا وجدت هذه الكتب فإنها بحوث نظرية لا تقدم أي برامج عملية.
وتلفَّتُ الى تجاربنا في تشجير المدن فوجدتها كلها متفقة على أنواع محددة من الأشجار.. وكلها فشلت فشلاً ذريعاً في تحمُّل الحرارة الشديدة والجفاف القاسي والحرارة الملتهبة..
فالجهود تتواصل في مجال التشجير، ولكن النتائج كانت ضعيفة.. فما تكاد الشجيرات تخضر وما تكاد الأغصان تورق.. حتى تجتاحها موجة من الحر الملتهب.. ويتكرر الغرس.. ويتكرر الجفاف.. ولكن لا أحد يوقف هذا الخطأ.. فالأنواع التي ثبت فشلها الذريع يتكرر غرسها..
وتذهب للمشاتل الخاصة التي أعدّت نفسها للبيع فلا تجد عندهم غير الأنواع الشائعة المتداولة.. وهى نفسها التي ثبت فشلها بشكل لا يقبل الجدل، ولكن لا أحد منهم يبحث عن البديل الملائم، لأنهم ضمنوا استمرار البيع.. فلم يكلفوا أنفسهم إعادة النظر في أسلوبهم الخاطئ.. وربما كانوا غير قادرين على تقييم الوضع أو إيجاد البديل الملائم.
ولا يذهب ذاهبٌ من عمال البلدية إلى الخارج.. إلا وأطلب منه ألا يعود إلا ومعه شيء من (عُقَل) الأشجار أو من بذورها حسب طريقة التكاثر، وتتعدد الأنواع ولكن يتكرر الفشل وتتكرر خيبة الأمل.
وقنعت من نجاح بعض الأنواع.. وكان في المقدمة شجر الكافور (الكينة) فركزت عليه في حائل تركيزاً بالغ الشدة.. لأن ما يسلم من الأنواع الأخرى من الحر الشديد لا ينجو من الصقيع القاتل.. ما عدا (الكينة) فقد قاومت الحرارة الشديدة وتحملت الصقيع فاعتبرناها أنجح الأنواع.
وفي غمرة البحث عن البديل الأفضل.. وقع في يدي كتاب مترجم كتب فصوله فريق من علماء النبات الأمريكيين..
وفي أمريكا مناطق صحراوية تشبه صحراءنا.. فوجدت في الكتاب فصلاً عن «بيئة النباتات الصحراوية».. فألفيته يتحدث عن شجرة (البروسوبس) التي وصَفَها بأنها شجرة مدهشة.. إنها ذات اخضرار ناصع وظل كثيف، إنها توحي بوفرة الماء حتى لتبدو كالشيء في غير موضعه.. فهي ناصعة الاخضرار وكثيفة الأوراق رغم الجفاف الشديد والحرارة الملتهبة!
ورحت أبحث عنها.. ولكن لا أحد يعرفها.. ثم ظننت أنني عثرت عليها حين عثرت على شجرة تشبهها من بعض الوجوه.. وهي التي تسمى «الفتنة» وهي من الفصيلة نفسها لكنها لحقت بصويحباتها، فلئن قاومت الحر.. فإنها فشلت فشلاً ذريعاً في مقاومة صقيع حائل، فماتت موتاً كاملاً بسبب الصقيع.
وعدت قانعاً بـ(الكينة) مع بعض الأنواع التي كانت أقل فشلاً.. مثل البركنسونيا والكازورينا وبعض أنواع الأكاسيا، حتى تم نقلي إلى المنطقة الشرقية.. لأعمل في المديرية العامة للشؤون البلدية والقروية هناك.. ولفتت نظري شجرة تنمو من تلقاء نفسها في الفضاء مثلما تفعل أشجار الطلح في نجد.. ولكنني لم أجدها في شوارع المدن هناك إلا بشكل نادر جداً.
وما كدت أستقر هناك حتى ذهبت إلى الظهران لأجد أن أرامكو اعتنت بهذه الشجرة فصارت الظهران غابة بديعة وسط شحوب شامل ووجدت أن شركة أرامكو عممتها على كل المواقع والأحياء والمكاتب التابعة لها.
ولما ذهبت إلى الخفجي.. وجدت أن الشركات الأخرى حذت حذو أرامكو.. فأحالت مواقعها ومناطقها السكنية إلى غابات رائعة بالتركيز على هذه الشجرة.. فعرفت أنني عثرت على الشجرة التي طال بحثي عنها.. إنها شجرة (البروسوبس) المدهشة التي أذهلت العالم الأمريكي «فريتس فنت» وهو أحد أعضاء الفريق الذين ساهموا في كتابة فصول كتاب «حياة النبات».
ورحت أكرر التأكيد على البلديات والمجمعات المرتبطة بالمديرية العامة للشؤون البلدية والقروية بالمنطقة الشرقية طالباً تكريس التوجه وحفظ الجهد.. والتركيز على شجرة (البروسوبس) في تشجير المدن.. لكن مكثي في المنطقة الشرقية لم يستمر سوى بضعة شهور.
وحين انتقلت إلى المديرية العامة للشؤون البلدية والقروية بمنطقة القصيم.. كان هاجس التشجير هو الهاجس الأول والمُلِّح.. فرحت أواصل الإلحاح والتأكيد والتذكير ملتمساً التركيز الشديد على شجرة (البروسويس) حتى تكتسي مدن القصيم بالخضرة والبهاء.
واستجابت البلديات والمجمعات القروية للنداء المتكرر وتسابقت في نشر الخضرة.. وأفلحت في تحقيق الهدف.. وما زالت تواصل السباق لتحقيق المزيد من الخضرة والظل والبهاء.
ومن أغرب الشائعات ما يتناقله الجُهّال عن الشجرة الغازية، وكأنهم يخشون على بيئتنا الصحراوية القاحلة أن يغزوها الاخضرار، فشجرة (البروسوبس) هي أنسب الأنواع لتخضير الصحراء، لكن الناس يتلقفون الشائعات من دون تمحيص؛ فليس من طبيعة الناس أن يتحققوا إلا لما يهمهم بصفة شخصية؛ فالتحقق في أي موضوع ليس تلقائياً، بل يتطلب اهتماماً وتركيزاً واستقصاءً كما يتطلب استخدام أدوات كافية من أدوات التحقق، كما يتطلب مصابرة على التحقق، أما قبول الشائعات والهراء والخرافات فلا يتطلب سوى أن تسمع ما يُقال ثم تنفعل به من دون أن تبذل الجهد الكافي للتحقق منه، وهذا هو الذي يحصل في كل المجتمعات وفي مختلف الأزمنة، لذلك فإن ترويج الشائعات هو من أقذر أدوات الإفساد وأشدها ضرراً وأعمقها تأثيراً وأدومها بقاءً وأوسعها انتشاراً، لذلك فليس أسهل من نشر الشائعات وتدمير الوعي العام.
يظن البعض أن الناس في عصر العلوم قد اكتسبوا حصانة عن الشائعات، أما الحقيقة فهي أن لدى البشر قابليات مفتوحة لكل الشائعات ولمختلف أنواع التفكير الخرافي، فالعقل البشري مهزلة، كما قال الوردي، فالتحقق نادر عند معظم الناس في كل الأمكنة وجميع الأزمنة، فلا حصانة لقابليات الناس من أشد الشائعات سخفاً.
ومن هنا أصبح الناس يتحدثون عن (الشجرة الغازية)، إنهم بذلك يكشفون عن الجهل بأبسط حقائق الحياة، فكل المهتمين يعلمون أن العالم قد نقل مئات الأنواع من بيئة إلى بيئة، فالموطن الأصلي لأشجار البن هو الحبشة، ثم اليمن، فنُقلت إلى البرازيل وبلدان أخرى، والبرازيل الآن هي أكبر منتح للبن.
أوروبا لم تكن تعرف البطاطس، فتم جلب البطاطس من أمريكا إلى أوروبا فصار الغذاء الأساسي للأوروبيين.
شجرة المطاط (هيفيا) لم تكن معروفة في أي مكان من العالم باستثناء أمريكا الجنوبية، فنقل البريطانيون هذه الشجرة إلى جزيرة سيلان في جنوب شرق آسيا، ثم انتقلت منها إلى إندونيسيا وبقية بلدان شرق جنوب آسيا، فصارت هذه البلدان التي نُقِلت إليها شجرة (هيفيا) هي المنتج الأول للمطاط، قبل أن يصبح إنتاجه كيميائياً.
وعندنا في نجد ما زالت الخضار تؤكد أنها مجلوبة، فبعض أنوع القرع عندنا يسمى (قرع مصري) ونوع آخر يسمى (قرع شام)، والطماط مجلوب، وكل ما يتم إنتاجه في صحرائنا القاحلة مجلوب من خارجها، والعالم كله يقوم بتوطين آلاف النباتات والخضار والفواكه، فالنقل حقيقة لا ينفيها إلا مكابر، بل إن محاربة شجرة (البروسوبس) بدعوى أنها غازية تمثل فضيحة حضارية!
أخبار ذات صلة













