تشهد المجتمعات الإسلامية تحولاً ثقافياً عميقاً، يتجاوز التغيرات السياسية والاقتصادية، ويصل إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي والهوية. بعد تراجع الخطابات القومية التقليدية، وصعود الحركات الدينية العابرة للحدود، تبرز ما يمكن تسميته بـ”القوميات الحضارية“؛ حركات تستعيد الرموز والذاكرة القديمة لتأسيس انتماء جديد يتخطى الأطر الدينية والوطنية الضيقة.
هذا التحول ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لتفاعل معقد بين العولمة، والفردانية الرقمية، والقلق الوجودي. في عالم يتسم بالسيولة وفقدان الجذور، يبحث الأفراد عن أصول ثقافية تمنحهم هوية ثابتة وشعوراً بالانتماء. هذا البحث عن الذات يظهر في استعادة الاهتمام بالحضارات القديمة التي ازدهرت في المنطقة، مثل الحضارة الفرعونية في مصر، والحضارة المورية والأمازيغية في شمال أفريقيا، والحضارات الآشورية والبابلية والفينيقية في العراق وسوريا.
القومية الحضارية كبحث عن الذات في زمن العولمة
لم تعد القومية مجرد مفهوم سياسي مرتبط بالدولة القومية، بل أصبحت تعبيراً عن هوية ثقافية أعمق. هذا التحول يعكس إدراكاً متزايداً بأن الانتماء لا يقتصر على الحدود الجغرافية أو العقيدة الدينية، بل يمكن أن يستند إلى إرث حضاري مشترك. تستمد هذه الحركات قوتها من استعادة الذاكرة الجماعية، وإحياء الرموز الثقافية، والتأكيد على الأصالة والتراث.
ومع ذلك، فإن هذا الصعود لا يخلو من التحديات والمفارقات. فبينما تسعى القوميات الحضارية إلى استعادة الماضي، فإنها تواجه خطر الانغلاق والتعصب. كما أنها تثير تساؤلات حول العلاقة بين الهوية الثقافية والهوية الوطنية، وكيف يمكن التوفيق بينهما. إضافة إلى ذلك، فإن استخدام الذاكرة كأداة للهوية يمكن أن يؤدي إلى صراعات حول تفسير التاريخ وتحديد الانتماء.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في انتشار وتأجيج هذه الحركات. توفر هذه المنصات مساحة للتعبير عن الهويات الثقافية، وتبادل الأفكار، وتنظيم الفعاليات. كما أنها تسمح للأفراد بالتواصل مع الآخرين الذين يشتركون في نفس الاهتمامات والانتماءات، بغض النظر عن مكان وجودهم. لكن في المقابل، يمكن أن تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار المعلومات المضللة، وتأجيج الكراهية، وتعميق الانقسامات.
صراع الرموز والذاكرة
إن صعود القوميات الحضارية ليس مجرد ظاهرة ثقافية، بل هو أيضاً حقل صراع رمزي. تسعى مختلف الحركات إلى احتكار تعريف الهوية، واستعادة الرموز الثقافية، وتشكيل الذاكرة الجماعية. هذا الصراع يتجلى في التنافس بين الحركات القومية والدينية، وبين الأجيال المختلفة، وبين المناطق الجغرافية المتنوعة.
في مصر، على سبيل المثال، يشهد التاريخ الفرعوني إعادة قراءة مكثفة في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام، بهدف تعزيز الهوية الوطنية على أسس حضارية. وفي المغرب، تكتسب النزعة “المورية” أبعاداً فلسفية، وتسعى إلى إعادة ربط الحاضر بالماضي الأمازيغي المتوسطي والأندلسي. وفي كل من العراق وسوريا، يبرز التمجيد للحضارات القديمة كآشورية وبابلية وفينيقية، كمصدر للفخر والوحدة الوطنية.
تداعيات صعود القوميات الحضارية
هذا التحول في الوعي الجمعي له تداعيات عميقة على المشهد السياسي والثقافي في العالم الإسلامي. فمن ناحية، يمكن أن يساهم في تعزيز التعددية الثقافية، وتشجيع الحوار بين الحضارات، وتجاوز الانقسامات الطائفية والوطنية. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الصراعات الهوياتية، وتأجيج النزعات الانفصالية، وتقويض سلطة الدولة الوطنية.
ويرى بعض المفكرين، مثل طه عبد الرحمن، أن الانتماء الأخلاقي أعمق من الانتماء التاريخي، وأن أي هوية تقوم على الذاكرة وحدها محكوم عليها بالفشل. بينما يرى آخرون أن استعادة الذاكرة الثقافية ضرورية لمواجهة تحديات العولمة، واستعادة الثقة بالنفس، وبناء مستقبل أفضل.
الوضع الراهن يشير إلى أن القوميات الحضارية ستستمر في لعب دور مهم في تشكيل الهويات والمواقف في العالم الإسلامي. من المتوقع أن تشهد هذه الحركات مزيداً من النمو والتوسع، خاصة في ظل استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية، وتزايد الشعور بالضياع والانتماء.
ما يجب مراقبته في المستقبل القريب هو كيفية تعامل الدول والحكومات مع هذه الحركات، وهل ستسعى إلى استيعابها ودمجها في المنظومة الوطنية، أم إلى قمعها وتهميشها. كما يجب مراقبة تأثير هذه الحركات على الخطاب العام، وعلى العلاقات بين المجتمعات المختلفة، وعلى مستقبل الهوية في العالم الإسلامي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.












