في تطور علمي مثير، تمكن باحثون من تتبع أنماط هجرة طائر “الصرد أحمر الظهر” بدقة غير مسبوقة، باستخدام أجهزة تسجيل بيانات صغيرة جداً. هذه الدراسة الجديدة تلقي الضوء على مدى تعقيد سلوك الهجرة لدى الطيور، وتكشف عن وجود برنامج داخلي دقيق ينظم رحلاتها عبر القارات. تُظهر النتائج أن هذه الطيور لا تعتمد على الحدس فحسب، بل تتبع جدولاً زمنياً معقداً ومُبرمجاً.
أجرى فريق بحثي من جامعة لوند في السويد هذه الدراسة في غابة صغيرة شمال جزيرة زيلاند الدانماركية، حيث قاموا بتجهيز الطيور بأجهزة تزن أقل من جرام واحد. هذه الأجهزة سجلت بدقة متى طار الطائر، وكم استغرقت الرحلة، وأي مراحل متتابعة مر بها خلال هجرته السنوية بين شمال أوروبا وجنوب أفريقيا.
هجرة الطيور: برنامج داخلي مُفصّل يتحكم في مسار الرحلة
لطالما كانت هجرة الطيور الصغيرة موضوعاً للبحث والدراسة، ولكن بسبب صغر حجمها، كان من الصعب تتبعها بدقة. الطرق التقليدية، مثل استخدام حلقات التعريف، كانت توفر معلومات محدودة حول مسار الهجرة، بينما كانت أجهزة التتبع الأكبر حجماً تؤثر على قدرة الطيور على الطيران. هذه الدراسة تتغلب على هذه القيود بفضل التكنولوجيا الجديدة.
وفقاً للدراسة، فإن الطيور لا تهاجر بشكل عشوائي، بل تتبع سلسلة من “مقاطع” الطيران المحددة. هذه المقاطع تتكون من فترات طيران متقاربة في التوقيت، تليها فترات توقف، ثم دفعات أخرى من الطيران. الجدير بالذكر أن هذا النمط متسق للغاية بين الأفراد، مما يشير إلى وجود برنامج داخلي مُفصّل يتحكم في سلوك الهجرة.
دقة التوقيت في رحلات الطيور
أظهرت البيانات أن الاختلاف في إجمالي زمن الطيران بين الأفراد كان ضئيلاً للغاية، حوالي 6% فقط. في رحلة الربيع، طار كل طائر في المتوسط حوالي 270 ساعة موزعة على 43 رحلة ليلية، وقطع أكثر من 11 ألف كيلومتر. هذا المستوى من الدقة يشير إلى أن الطيور لديها القدرة على تنظيم رحلاتها بشكل فعال للغاية.
وفي موسم العودة إلى مناطق الشتاء في جنوب أفريقيا، تشير الدراسة إلى أن الرحلة تستغرق حوالي 190 ساعة موزعة على 30 رحلة. هذا يدل على أن هناك اختلافات موسمية في نمط الهجرة، وأن الطيور تتكيف مع الظروف المتغيرة.
تُظهر النتائج أن الطيور لا تعتمد فقط على العوامل الوراثية في تحديد مسار هجرتها، بل تأخذ أيضاً في الاعتبار العوامل البيئية مثل الرياح، وتوفر الغذاء، والمخاطر المحتملة. هذا يعني أن سلوك الهجرة هو نتيجة تفاعل معقد بين الجينات والبيئة.
تُعتبر هذه الدراسة خطوة مهمة في فهم سلوك هجرة الطيور. فهي توفر أدلة قوية على أن الطيور لديها برنامج داخلي مُفصّل يتحكم في رحلاتها، وأن هذا البرنامج يتأثر بالعوامل الوراثية والبيئية. هذا الفهم يمكن أن يساعد في جهود الحفاظ على الطيور المهاجرة، وحماية مسارات هجرتها.
الخطوات التالية في دراسة هجرة الطيور
يخطط الباحثون الآن لتوسيع نطاق الدراسة ليشمل أنواعاً أخرى من الطيور المهاجرة، ومقارنة أنماط هجرتها مع تلك الخاصة بالصرد أحمر الظهر. كما يهدفون إلى تحديد الجينات المسؤولة عن سلوك الهجرة، وفهم كيف تتفاعل هذه الجينات مع العوامل البيئية. من المتوقع أن يتم نشر نتائج هذه الأبحاث في غضون عامين. يبقى السؤال مفتوحاً حول مدى تعقيد هذه البرامج الداخلية، وكيف يمكن أن تتأثر بتغير المناخ والظروف البيئية المتدهورة.













