كشفت دراسة حديثة أن صغار السلاحف البحرية، وتحديداً سلاحف ضخمة الرأس (اللوغرهيد)، تستخدم المجال المغناطيسي للأرض كخريطة طبيعية لتحديد مواقعها خلال هجراتها الطويلة عبر المحيطات. هذه الاكتشافات الجديدة تلقي الضوء على الآليات المعقدة التي تسمح لهذه الكائنات الصغيرة بالتنقل بدقة في البيئة البحرية الشاسعة، وتؤكد أهمية الحفاظ على البيئة المغناطيسية الطبيعية للمحيطات.
نُشرت نتائج البحث في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 في مجلة “جورنال أوف إكسبرمنتال بيولوجي”، وتشير إلى أن السلاحف الصغيرة تمتلك نظامين متميزين لاستشعار المجال المغناطيسي: نظام يعمل كبوصلة لتحديد الاتجاه، وآخر يعمل كخريطة لتحديد الموقع الجغرافي. هذه القدرة الفطرية تمكنها من إيجاد طريقها عبر آلاف الكيلومترات، حتى في غياب أي معالم بصرية واضحة.
استشعار المجال المغناطيسي لدى السلاحف البحرية
لطالما اعتقد العلماء أن الحيوانات تعتمد على طريقتين رئيسيتين لاستشعار المجال المغناطيسي. الأولى تتعلق بجزيئات حساسة للضوء قد تمكن الحيوان من “رؤية” المجال، بينما تعتمد الثانية على بلورات مجهرية من المغنتيت داخل الجسم، تتفاعل مع المجال وتخلق إحساسًا مباشرًا به. تهدف هذه الدراسة إلى تحديد الآلية التي تستخدمها السلاحف الصغيرة في بناء خريطتها الداخلية.
توضح الدكتورة ألينا ماكيفيتش، الباحثة الرئيسية في الدراسة من جامعة نورث كارولينا، أن الفريق استند إلى اكتشاف سابق يظهر قدرة صغار السلاحف على ربط مجال مغناطيسي معين بوجود الطعام. ولكن، بدلاً من إشارة صوتية أو لعابية، تظهر السلاحف استجابة سلوكية مميزة تتمثل في الميلان فوق الماء، وفتح الفم، وتحريك الزعانف الأمامية، وهو ما أطلقوا عليه “الرقص”.
قام الباحثون بتدريب مجموعتين من السلاحف الصغيرة على ربط مجالات مغناطيسية محددة بمواقع جغرافية حقيقية في المحيط. تلقى كل سرب تدريبه في مجال مغناطيسي يمثل منطقة مختلفة، مثل جزر تركس وكايكوس أو السواحل القريبة من هايتي. استمر التدريب لمدة شهرين، مع تقديم الطعام للسلاحف داخل المجال المخصص لها بشكل يومي لتعزيز الارتباط.
بعد ذلك، قاموا بتعريض كل سلحفاة لنبضة مغناطيسية قوية، بهدف إرباك بلورات المغنتيت الموجودة داخل أجسامها. هذه النبضة تعطل مؤقتًا قدرة السلاحف على الإحساس بالمجال المغناطيسي، مما يسمح للباحثين بتقييم تأثير ذلك على سلوكها.
أظهرت النتائج أن سلوك “الرقص” لدى السلاحف انخفض بشكل ملحوظ بعد تطبيق النبضة المغناطيسية. وهذا يشير بقوة إلى أن بناء خريطة الموقع يعتمد بشكل أساسي على الإحساس بالمجال المغناطيسي عبر بلورات المغنتيت، وليس على آلية بصرية.
آليات الملاحة المزدوجة
ومع ذلك، يؤكد الباحثون أن السلاحف لا تعتمد على هذه الآلية وحدها. هناك حاسة مغناطيسية أخرى، قد تتضمن مكونًا بصريًا، تعمل كبوصلة لتحديد الاتجاه. وبالتالي، فإن نظام الملاحة لدى السلاحف يتكون من جزأين مترابطين: خريطة لتحديد الموقع، وبوصلة لتحديد الاتجاه، يعملان معًا لتمكينها من التنقل عبر المحيط.
وتشير الدراسة أيضًا إلى أن العوامل الأخرى، مثل العمر والموقع والقوة المحلية للمجال المغناطيسي، يمكن أن تؤثر على اعتماد السلاحف على آليات الملاحة المختلفة. إضافةً إلى ذلك، هناك اهتمام متزايد بدراسة تأثير التلوث الكهرومغناطيسي على القدرة الطبيعية للحيوانات على التنقل.
تعتبر هذه النتائج ذات أهمية خاصة فيما يتعلق بجهود حماية البيئة البحرية. فقدان أو تغيير المجال المغناطيسي الطبيعي للمحيطات، بسبب الأنشطة البشرية، يمكن أن يشكل تهديدًا كبيرًا لقدرة السلاحف البحرية على البقاء والتكاثر. يوصي الباحثون بمراجعة وتقييم أنظمة الإضاءة على الشواطئ وتقليل التشويش المغناطيسي في مناطق التعشيش والهجرة.
من المتوقع أن يتم إجراء المزيد من البحوث لتحديد الآليات الدقيقة التي تستخدمها السلاحف البحرية لاستشعار المجال المغناطيسي، وفهم كيفية تأثير التغيرات البيئية على هذه الآليات. كما سيتم التركيز على دراسة تأثير المجال المغناطيسي على أنواع أخرى من الحيوانات المهاجرة، مثل الطيور والأسماك. يجب مراقبة مستويات التلوث الكهرومغناطيسي وتأثيرها على الحياة البحرية بشكل مستمر، ووضع استراتيجيات للتخفيف من الآثار السلبية المحتملة.













