شكلت زيارة الرئيس اللبناني جوزيف عون، إلى السعودية، محطة سياسية بارزة في المشهد اللبناني، إذ اختار الرياض كأول وجهة خارجية له بعد انتخابه. هذه الخطوة، التي سبقت القمة العربية الاستثنائية في القاهرة، لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل حملت في طياتها دلالات سياسية وإستراتيجية، تعكس توجهات العهد الجديد، وإعادة التموضع في إطار الحاضنة العربية، بزعامة المملكة.
توقيت ودلالات الزيارة
تزامن توقيت الزيارة مع مرحلة حساسة تمر بها المنطقة، خصوصاً مع تصاعد التوترات في الملف الفلسطيني، وطرح تصورات جديدة للنظام العربي بقيادة الدول الست دول مجلس التعاون الخليجي بالشراكة مع مصر والأردن. هذا الواقع الإقليمي المتغير فرض على القيادة اللبنانية مقاربة جديدة للعلاقات مع الرياض، قائمة على المصالح الاستراتيجية، بعيداً عن الحسابات الضيقة والعلاقات الشخصية التي سادت في مراحل سابقة.
الاستقبال السعودي الرسمي والحفاوة التي حظي بها الرئيس عون، يعكسان الأهمية التي توليها المملكة للبنان، خصوصاً في ظل الجهود المبذولة عربياً ودولياً لمساعدته على استعادة استقراره. وترجم هذا الاهتمام في اللقاء الذي جمع عون بولي العهد الأمير محمد بن سلمان في قصر اليمامة، إذ جرت محادثات موسعة انتهت ببيان مشترك رسم الخطوط العريضة لمسار العلاقة بين البلدين في المرحلة القادمة.
شراكة ومعادلة التقدم وفق مسار متوازن
البيان المشترك الصادر عن القمة السعودية – اللبنانية، وضع خارطة طريق واضحة للعلاقة بين بيروت والرياض، تقوم على مبدأ التزام لبنان بتعهداته السيادية والإصلاحية مقابل دعم عربي ودولي يساعده على تجاوز أزمته. وهذا ما بدا جلياً في تركيز البيان على عدة نقاط أساسية: تطبيق خطاب القسم الرئاسي والبيان الوزاري، في ما يتعلق بتعزيز سيادة الدولة وحصر السلاح بيدها والالتزام باتفاق الطائف والقرارات الدولية، وتأكيد أهمية بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها كشرط أساسي لبدء مرحلة جديدة من الدعم والاستثمارات، وارتباط التعافي الاقتصادي بالإصلاحات المطلوبة دولياً وفق معايير الشفافية والمحاسبة، ودراسة العقبات التي تحول دون استئناف التصدير اللبناني إلى السعودية، ووضع آليات تضمن جودة المنتجات وسلامة الشحنات، واتخاذ التدابير الأمنية الضرورية لضمان أمن الزائرين السعوديين، ما يمهد لرفع الحظر عن سفرهم إلى لبنان.
هذه الرسائل عكست مقاربة سعودية واضحة تقوم على «التقدم وفق مسار متوازن» إن صح التعبير، أي أن أي دعم اقتصادي أو استثماري للبنان سيكون مشروطاً بإصلاحات جدية، وبالتزام بيروت بتنفيذ تعهداتها، بعيداً عن المناورات السياسية التقليدية.
ما الذي تغير بعد الزيارة؟
يمكن القول، إن الزيارة أحدثت تحولاً ملموساً في المشهد السياسي اللبناني، لعدة أسباب:
عودة لبنان إلى الحاضنة العربية من البوابة السعودية: جاءت الزيارة بعد فترة من الفتور في العلاقات بين البلدين، ما يؤكد أن لبنان بدأ يتحرك باتجاه استعادة موقعه الطبيعي في المنظومة العربية خصوصاً مع التحولات الجذرية التي يشهدها النظام الإقليمي.
تعزيز دور الجيش اللبناني: فقد أكدت المملكة استمرار دعمها للمؤسسة العسكرية اللبنانية، ما يعزز دور الجيش كضامن وحيد للأمن والاستقرار، ويشكل رسالة واضحة حول ضرورة تعزيز سيادة الدولة وحصر السلاح بيدها.
التأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية: ابتعدت الزيارة عن الطابع البروتوكولي التقليدي، واتسمت بطابع عملي قائم على البحث في خطوات تنفيذية لإعادة تفعيل التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين.
وفي مؤشر على استمرار التواصل السعودي – اللبناني، كشف الرئيس جوزيف عون زيارة ثانية مرتقبة إلى الرياض رفقة وفد رسمي رفيع، وذلك خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء فور عودته من جولته العربية إلى بيروت الخميس الماضي، ما يؤكد أن هناك خطوات عملية قيد البحث لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الزيارة الأولى.
معادلة جديدة للعلاقات اللبنانية – السعودية
بعد سنوات من الاضطراب، يبدو أن لبنان والمملكة، يسيران نحو علاقة جديدة قائمة على المصالح المشتركة والالتزامات الواضحة، بعيداً عن الحسابات الضيقة التي حكمت العلاقة في الماضي. ومع التحديات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها لبنان، فإن التزامه بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة سيكون المحدد الأساسي لمسار العلاقات في المستقبل، في ظل معادلة سعودية واضحة: الدعم مقابل الإصلاح، وليس المجاملات.
أخبار ذات صلة