بقلم: محمد نشبت
نشرت في
بعد عامين من حرب مدمرة حوّلت مدارسهم إلى ركام ومراكز إيواء، يعود أطفال غزة إلى مقاعد الدراسة. فبين جدران مهدمة وساحات لا تزال تأوي خيام النازحين، تتعالى أصوات التلاميذ من جديد، حاملين دفاتر ممزقة وقلوباً مفعمة بإصرار على استعادة حقهم في التعليم كشكل من أشكال التمسك بالحياة.
عقب وقف إطلاق النار الساري منذ 10 أكتوبر (تشرين الأول)، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ووزارة التربية والتعليم العالي عن استئناف العملية التعليمية تدريجياً.
وتشير الأرقام إلى حجم الكارثة؛ حيث دُمرت أكثر من 179 مدرسة حكومية بشكل كامل، وتضررت مئات أخرى، بينما قتل ما يزيد عن 18 ألف طالب وطالبة.
فصول دراسية على الأرض وتحدي النزوح
في مدارس مثل “الحساينة” بالنصيرات و”دير البلح” الأساسية، يفترش التلاميذ الأرض في صفوف مكتظة تفتقر لأبسط المقومات من مقاعد وكتب. ورغم ذلك، تبدو السعادة على وجوههم وهم ينسخون دروسهم من ألواح قديمة.
يمثل وجود النازحين في المدارس التحدي الأكبر والأكثر تعقيداً. ففيما تحاول إدارات المدارس تخصيص فترات صباحية للتعليم، تتحول هذه المباني مساءً إلى مأوى لعشرات العائلات التي فقدت منازلها. هذا الواقع المزدوج يخلق بيئة غير مستقرة، حيث يختلط ضجيج الحياة اليومية للنازحين بمحاولات المعلمين لخلق جو دراسي.
أصوات من قلب المأوى: “إلى أين نذهب؟”
وتجسد شهادات النازحين القابعين في المدارس عمق المأساة الإنسانية. أم محمد حسان، التي نزحت من منطقة المغراقة بعد أن تدمر بيتها بالكامل، تتساءل بحرقة: “بيوتنا كلها راحت. لجأنا إلى هذه المدرسة، فإذا أرادوا إخراجنا، إلى أين نذهب؟ هل يعقل أن يرمونا في الشوارع؟ نطالب بتدبير مكان آمن لنا قبل إخراجنا من هنا. لقد تعبنا”.
هذا المطلب يردده وائل أبو عيشة، نازح آخر من المغراقة، الذي يؤكد أنه ليس ضد عودة التعليم لأطفالهم، بل يتمنى ذلك بشدة. لكنه يستدرك قائلاً: “نحن بيوتنا مدمرة، ولا توجد بنية تحتية أو معدات لإزالة الركام. في الوقت الحالي، أين نذهب؟ نحن مع وزارة التربية والتعليم، لكننا نريد بدائل، نريد مأوى نعيش فيه”.
من جهتها تقول أم سعدي عليوة، النازحة من حي التفاح، إن استمرار العملية التعليمية أمر مهم للأطفال، لكنها تشدد في الوقت نفسه على ضرورة توفير مأوى بديل للعائلات المقيمة داخل المدارس. وتضيف: “نحن مستعدون لمغادرة المدرسة عندما يتوفر مكان مناسب يحتوي على الحد الأدنى من الخدمات مثل المياه والنظافة. المشكلة ليست في مغادرتنا، بل في عدم وجود أي بديل واضح حتى الآن”
شهادات حية من قلب المعاناة
وتعكس شهادات الطلاب حجم الإصرار والرغبة في التعلم. تقول الطالبة رؤى عبود: “ما نحتاجه الآن هو الدفاتر والكتب والأقلام. نريد أن نستعيد حياتنا”. أما زميلتها أسيل حنونة فتضيف: “نريد أن نتعلم ونلعب، وأن ندرس كل المواد كما كنا من قبل. الآن ندرس فقط العربية والإنجليزية والرياضيات”. هذا الاختصار في المناهج هو أحد الحلول المؤقتة التي لجأت إليها السلطات التعليمية للتعامل مع نقص الكوادر والموارد.
في مواجهة هذه الكارثة التعليمية، تتحدث وزارة التربية والتعليم عن تحديات غير مسبوقة. يؤكد الدكتور مجدي برهوم، الناطق باسم الوزارة، أن الجيش الإسرائيلي تعمّد استهداف العملية التعليمية بكل مكوناتها، مما أدى إلى حرمان 650 ألف طالب من التعليم لعامين كاملين وخروج أكثر من 95% من المدارس عن الخدمة.
ويضيف برهوم أن الوزارة تخوض ما أسماها “حربا أخرى” عبر تطبيق بدائل طارئة. ويوضح: “لقد أطلقنا نقاطاً تعليمية في خيام النزوح، ووفرنا التعليم عن بعد عبر منصات لمن يملكون القدرة على الوصول إليها، كما أنشأنا مدرستين افتراضيتين لضمان تكافؤ الفرص”. ورغم نجاح الوزارة في عقد امتحانات الثانوية العامة إلكترونياً بنتائج فاقت التوقعات، يقر برهوم بأن هذه الحلول لا يمكن أن تعوض التعليم الوجاهي، لكنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
جهود أممية ومستقبل على المحك
وتبذل “الأونروا” جهودًا لدعم استئناف التعليم والتعامل مع الأزمة الإنسانية المتفاقمة. وأعلن المستشار الإعلامي للوكالة، عدنان أبو حسنة، عن خطط لاستئناف تعليم نحو 300 ألف طالب عبر مزيج من التعليم الوجاهي المحدود والتعليم الافتراضي، في وقت تستضيف فيه الوكالة نحو 75 ألف نازح داخل مائة مأوى طارئ.
ورغم هذه الجهود، لم تعلن كلٌّ من وزارة التربية والتعليم والأونروا حتى الآن عن جدول زمني واضح لعودة المدارس إلى عملها الكامل أو لإنهاء حالة الازدواج بين العملية التعليمية ومراكز الإيواء.
بينما تتعالى ضحكات الأطفال في ساحات المدارس مجدداً، يبقى مستقبل التعليم في غزة هشاً ومحفوفاً بالمخاطر. يؤكد الخبراء أن أي حلول حالية هي مؤقتة، وأن العودة الحقيقية إلى مسار التعليم الطبيعي مرهونة بإعادة إعمار المدارس، وتوفير بدائل سكنية آمنة للنازحين، وتقديم دعم نفسي شامل للطلاب والمعلمين الذين عانوا من صدمات الحرب. فالمعركة الحقيقية اليوم ليست فقط ضد الدمار المادي، بل ضد محو ذاكرة جيل كامل وخطر تركه “جيلاً ضائعاً”.













