رام الله- منذ يونيو/حزيران الماضي، تسعى عائلة الطفل الشهيد يوسف فقهاء (14 عاما) من بلدة سنجل شمال شرق رام الله، لمعرفة مصير جثمان ابنها الذي احتجزه الاحتلال منذ استشهاده.
وكل مطالباتهم للمؤسسات الحقوقية الدولية والمحلية بهذا الشأن كان الرد عليها “الملف قيد المتابعة”، ولم تُشف هذه الإجابة صدور أفراد هذه العائلة الذين ينتظرون إغلاق قبر طفلهم المفتوح.
واستُشهد يوسف على المدخل الشمالي لقريته بعد إطلاق جنود الاحتلال النار عليه، مدّعين أنه كان يُلقي الحجارة.
سياسة قديمة
يقول والده فؤاد فقهاء للجزيرة نت “ما حدث جريمة قتل بدم بارد، ولم يكتفِ الاحتلال بذلك، بل ألحقها بجريمة أفظع باحتجاز جثمانه، لن يكون هناك ظلم أكبر من هذا”. ويضيف أنه كان يسمع عن سياسة احتجاز جثامين الشهداء، ولكنه لم يتوقع تأثيرها الكبير على أسرته، “ما نعيشه شعور لا يوصف، فقدنا طفلنا وحُرمنا من وداعه. حزننا عليه لا ينطفئ، لا يزال مفتوحا في صدورنا مثل قبره”.
وهذه السياسة ليست بالجديدة، فقد اعتمدت إسرائيل هذا النهج، الذي ورثته من الانتداب البريطاني وفق قوانين الطوارئ لعام 1945، منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي. وفي 27 أغسطس/آب من كل عام، يحيي الفلسطينيون اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء.
وفي انتفاضة الأقصى عام 2000، طوّر الاحتلال مستوى آخر من هذه السياسة بتأسيس مقابر الأرقام في مناطق الأغوار والنقب والجولان السوري المحتل، ودفن مئات الجثامين فيها في قبور تحمل لافتات كُتب عليها أرقام تدل على الشهداء.
وبعد سنوات من هذا العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات فدائية، توقف الاحتلال عن هذه السياسة ليعود لتفعيلها بعد هبة القدس في 2015، واحتجز المئات من الشهداء في ثلاجات الموتى.
وفي تطور لاحق عام 2019، قام بنقل عدد من الجثامين ودفنها في مقابر الأرقام لاستخدامها ورقة تفاوض في صفقة تبادل محتملة بعد إقرار المحكمة العليا الإسرائيلية ذلك بناء على المادة 133 من قانون الطوارئ البريطاني.
وفقا لأرقام الحملتين الشعبية والوطنية لاسترداد جثامين الشهداء ومعرفة مصير المفقودين التي تأسست عام 2008، فإن إسرائيل لا تزال تحتجز 726 جثمانا، بينهم 256 في مقابر الأرقام قبل 2015، و470 جثمانا مع عودة سياسة الاحتجاز بعد هذا العام، من بينهم 85 من شهداء الحركة الأسيرة الذين قضوا سنوات في سجون الاحتلال وبعد الاستشهاد احتُجزت جثامينهم، إلى جانب جثامين 10 شهيدات و67 طفلا تقل أعمارهم عن 18 سنة.
يطلق مصطلح “مقابر الأرقام” على مقابر دفنت فيها بطريقة غير منظمة جثامين فلسطينيين وعرب قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي ودفنهم في قبور تحمل أرقاما وفق ملفاتهم الأمنية، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية في العقدين الأخيرين عن بعضها في منطقة الأغوار وشمال البلاد.
وتحتجز سلطات الاحتلال جثامين… pic.twitter.com/DzyOAluwll
— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) August 29, 2024
عقاب جماعي
أمانة إبراهيم الأقرع واحدة من الشهيدات التي تحتجز إسرائيل جثمانها منذ أبريل/نيسان الماضي بعد إطلاق الرصاص عليها من قبل جنود الاحتلال قرب حاجز عسكري بدعوى محاولتها تنفيذ عملية طعن.
بعد استشهادها، اعتقلت القوات الإسرائيلية والدها إبراهيم، وخلال التحقيق معه سأل الضابط عن سبب احتجاز جثمان ابنته، فأجابه “كانت تنوي القيام بعملية ضد الجنود وهذا عقابها”، ولكنه يؤكد أنه عقاب له ولعائلته التي لا تزال تنتظر الجثمان لدفنه بكرامة ووفقا للتعاليم الإسلامية، كما قال للجزيرة نت.
وتابع إبراهيم “في أي قانون يتم معاقبة ميت؟ هم يعلمون قيمة الشهيد وتكريمه بالدفن، وأن حرمان أسرته من ذلك هو عقاب مستمر لها”.
والعقاب الجماعي الذي يعيشه والد أمانة هو الوصف الذي يستخدمه الحقوقيون لتعريف هذه السياسة، والتي تعني بالدرجة الأولى حرمان العائلات الفلسطينية من دفن أبنائها الشهداء بكرامة تليق بمكانتهم في المجتمع الفلسطيني، أو حتى التأكد من استشهادهم، كما هو الحال مع عائلة الأسير الشهيد لؤي نصر الله تركمان (23 عاما) من جنين الذي أُعلن عن استشهاده في سجون الاحتلال في 30 يونيو/حزيران الماضي.
لا تعرف أسرته حتى الآن ظروف استشهاده، مما جعلها تشكك في ذلك، فلم يكن يعاني من أي ظروف صحية، إلى جانب عدم تعاطي الجانب الإسرائيلي مع طلب تشريح جثمانه الذي تقدمت به مؤسسات حقوقية، والتكتم عن أي معلومات بشأنه.

تصعيد إسرائيلي
يقول والده فيصل للجزيرة نت “ترفض والدته التصديق ونحن أيضا، فكل ما وصلنا عن استشهاده هي معلومات شفهية من مؤسسات الأسرى نقلا عن الجانب الإسرائيلي”.
وتأمل عائلة لؤي أن يتم الكشف عن مصير ابنها بعد انتهاء مدة محكوميته الإدارية في 23 سبتمبر/أيلول القادم، وإن كان شهيدا، وأن يتم تسليم جثمانه ودفنه وألا يبقى -كما يقول الوالد- في “برد ثلاجات الموتى”.
بحسب منسق الحملة الشعبية لاسترداد الجثامين حسين شجاعية، فإن إسرائيل صعّدت من سياسة احتجاز الجثامين بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة. وباتت تحتجز جثمان أي شهيد وشهيدة يصلون إليه من دون أي معايير لذلك، مما ضاعف أعدادهم، إلى جانب تغيير التعامل معها لحظة الاحتجاز، والتنكيل بها.
⭕ احتجاز جثامين الشهداء أقسى أنواع الفقد#طوفان_الأقصى#يوم_الأسير_الفلسطيني#انتهاكات_بحق_الأسرى#أسرى_فلسطين pic.twitter.com/0KQeFz6jqE
— solidarity_ps (@PsSolidari15693) April 22, 2025
في المقابل، فإن الجهود القانونية التي كانت تُبذل للإفراج عن الجثامين تفشل على عكس ما كان قبلا.
ومن المتغيرات على هذه السياسة، كما يقول شجاعية للجزيرة نت، هو احتجاز جثامين من فلسطينيي 48 الذين وصل عددهم إلى 12 جثمانا، إضافة إلى شهداء من فلسطينيي مخيمات لبنان، وشهيد يحمل الجنسية الكندية وآخر مغربي يحمل الجنسية الأميركية.
ويتحدث عن “التحول الأكبر” في التعامل مع شهداء غزة، حيث يحتجز الاحتلال الآلاف من جثامينهم، ولم يتم توثيق إلا القليل استنادا إلى مصادر إسرائيلية كشفت أن تل أبيب تحتجز جثامين 1500 شهيد في معسكر سديه تيمان، و516 أعادتها إلى القطاع ودُفنت في مقابر جماعية مجهولة الهوية.