يقدم كتاب “النجاة في القرن الحادي والعشرين” رؤى متقاطعة من المفكر نعوم تشومسكي والرئيس الأوروغواياني الراحل خوسيه موخيكا، حول العدالة والحرية في عالم معاصر يواجه تحديات جمة. يستكشف الكتاب، من خلال حوار بين جيلين مختلفين، كيف وصلنا إلى هذه اللحظة التاريخية، وما هي السبل الممكنة لإعادة بناء الأمل في مستقبل أفضل. يمثل هذا العمل محاولة لفهم التحولات السياسية والاجتماعية التي يشهدها العالم، وتقديم منظور نقدي حول قضايا مثل الديمقراطية، والأتمتة، والمناخ.
يستند الكتاب إلى محادثات جمعت بين تشومسكي وموخيكا، وقام بتدوينها المخرج الوثائقي المكسيكي ساؤول ألبيذره، الذي يهدف إلى إنتاج فيلم وثائقي بنفس الاسم في عام 2026. يبرز الكتاب التناقضات بين مساري المفكرين، أحدهما أكاديمي أمريكي والآخر رئيس فلاح من الأوروغواي، وكيف التقيا عند نقطة مشتركة تتمثل في الالتزام بقيم إنسانية أساسية.
كيف وصلنا إلى هنا؟ تحليل نقدي للوضع الراهن
يبدأ الحوار بسؤال جوهري: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ يتطرق تشومسكي إلى نقطة تحول تاريخية، وهي عام 1945، الذي شهد بداية العصر النووي والعصر الأنثروبوسيني، حيث أصبح النشاط البشري قوة مؤثرة في تغيير البيئة. ويشير إلى أن البشرية تمتلك الآن القدرة على تدمير نفسها بطريقتين مختلفتين: الحرب النووية والتدهور البيئي.
يرى تشومسكي أن المجتمعات التي تتعامل بجدية مع أزمة المناخ ليست بالضرورة تلك التي تسببت فيها، بل المجتمعات الأصلية التي تحافظ على علاقة متوازنة مع الطبيعة. ويستشهد باعتراف الإكوادور الدستوري بحقوق الطبيعة، وقانون “الأرض الأم” في بوليفيا، كمثالين على هذا النهج.
دور النيوليبرالية في تفاقم الأزمات
يتوقف الكتاب عند صعود النيوليبرالية وتأثيرها المدمر على المجتمعات حول العالم. ويوضح تشومسكي كيف تم تقديم هذه السياسات بوصفها وسيلة لتعزيز الحرية الفردية، بينما كانت في الواقع تهدف إلى نقل السلطة من الدولة إلى الشركات العملاقة، مما أدى إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.
ويضيف موخيكا أن النيوليبرالية لم تفشل فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضًا على المستوى الثقافي والأخلاقي، حيث خلقت ثقافة الاستهلاك والإشباع الفوري التي تقوض قيم التضامن والتعاون. ويؤكد على أهمية بناء ثقافة بديلة تقوم على الكرامة الإنسانية والبساطة والزهد.
النجاة في القرن الحادي والعشرين: البحث عن بدائل
يناقش الكتاب صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وأمريكا الشمالية، ويحلل الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة. يرى تشومسكي أن هذا الصعود هو نتيجة مباشرة للسياسات النيوليبرالية التي أدت إلى تهميش واسع النطاق وفقدان الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية.
ويشير موخيكا إلى أن اليأس وفقدان الأمل هما من العوامل الرئيسية التي تدفع الناس إلى تبني أيديولوجيات متطرفة. ويؤكد على أهمية استعادة الشعور بالمعنى والهدف في الحياة، من خلال العمل الجماعي والمشاركة السياسية الفعالة.
يتطرق الحوار إلى دور أمريكا اللاتينية في البحث عن بدائل للنموذج الرأسمالي. ويشير تشومسكي إلى أن القارة شهدت في السنوات الأخيرة بعض التجارب الإيجابية في مجال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، لكن هذه التجارب لا تزال محدودة النطاق وتواجه تحديات كبيرة.
ويرى موخيكا أن أمريكا اللاتينية لديها إمكانات هائلة لتحقيق التغيير الإيجابي، لكنها تحتاج إلى قيادة حكيمة وشجاعة، وإلى بناء تحالفات قوية بين القوى التقدمية.
الحب والسعادة كعناصر أساسية للنجاة
لا يقتصر الكتاب على التحليل السياسي والاقتصادي، بل يتطرق أيضًا إلى قضايا إنسانية أساسية مثل الحب والسعادة. يؤكد تشومسكي على أهمية العلاقات الإنسانية في التغلب على الصعاب والتحديات، ويشير إلى أن الحب يمكن أن يكون قوة دافعة للتغيير الإيجابي.
ويرى موخيكا أن السعادة لا تكمن في الثروة أو السلطة، بل في الحرية والقدرة على عيش حياة ذات معنى. ويؤكد على أهمية التحرر من القيود المادية والمعنوية التي تمنعنا من تحقيق إمكاناتنا الكاملة.
يختتم الكتاب بنظرة متفائلة إلى المستقبل، مع التأكيد على أن النجاة في القرن الحادي والعشرين تتطلب جهودًا جماعية وتغييرًا جذريًا في طريقة تفكيرنا وعيشنا. من المتوقع أن يصدر الفيلم الوثائقي المستوحى من هذا الحوار في عام 2026، مما قد يساهم في إثارة نقاش أوسع حول هذه القضايا الهامة.
يبقى التحدي الأكبر هو ترجمة هذه الأفكار إلى أفعال ملموسة، وبناء حركة عالمية قادرة على مواجهة التحديات التي تهدد مستقبل البشرية. يجب مراقبة التطورات السياسية والاقتصادية في أمريكا اللاتينية والعالم، وتقييم مدى قدرة القوى التقدمية على تحقيق التغيير الإيجابي.












