يدرك القارئ المنتابة عاطفته بالشغف القرائي أن كلفة إشباعها تتطلب موازنةً دقيقةً قد تحيد بعضاً من احتياجاته المهمة، وأن مأزق المفاضلة بينهما سيتكرر كلما اندلعت في قلبه تلك الرغبة الملحة التي تراكم انتصاراتها وتتمدد في روعه.
بيد أنه في إزاء التكلفة المتزايدة لاقتناء الكتب قد يبحث عن خطط بديلة تُغفل رفاهية امتلاك مكتبة شخصية يلوذ إليها ناهيك عن الشعور الذي يتدفق من خلال تلمسه الورق وانبعاث رائحته وحميمة تأبط كتاب إلى رتابة تقليب الصفحات الزجاجية عبر شاشة حاسوب أو جهاز قارئ إلكتروني أو لوحي… واضطراره لارتياد المكتبات الإلكترونية لقراءة الكتب بصيغها الرقمية ما يحد من الصلة الحسية والعاطفية بينه وبينها، وبالتالي تضاؤل التفاعلات الحيوية التي اعتادها، ورغم ما يعتري هذا «الكائن البديل» من قصور على صُعد عدة إلا أنه أحد الحلول التي لم تكن لتتأتى في عهد مضى.
كان الكاتب والروائي البريطاني الشهير جورج أورويل صاحب الروايتين الشهيرتين مزرعة الحيوان و1984 يعتقد أن القراءة هي إحدى أقل وسائل الترفيه تكلفةً ويضعها في المرتبة الثانية بعد الاستماع إلى الراديو، لكنه يثبت من خلال مقالته البديعة «الكتب مقابل السجائر» التي نشرتها صحيفة التريبيون في فبراير من عام 1946م، وهو ذات العنوان الذي حمله أحد أجمل كتبه لاحقاً، أن تكلفة اقتناء الكتب باهظة نسبياً عطفاً على اعتباره القراءة فعلاً ترفيهياً، كما أنها مرتفعة أيضاً قياساً إلى دخل الفرد آنذاك، ويصل عبر جدول حسابي تقديري إلى أن ما ينفقه الفرد لاقتناء ثلاثة كتب ذات قيمة أدبية ومعرفية رفيعة بالإضافة إلى قراءة بعض الصحف والمجلات في عام واحد يوازي ما ينفقه الفلاح الهندي طوال حياته، كما يورد اقتراحاً لخفض التكلفة الباهظة يتضمن بيع الكتب بعد قراءتها بنصف السعر أو ربعه تأسيساً لسوق منطقية تمكن القارئ من إشباع نهمه دون أن يشكل ابتياع الكتب عبئاً مادياً يثقل كاهله، كما هو التوسع في استعارة الكتب لخفض الإقبال على متاجر بيعها وتراجع الطلب مقابل نمو العرض.
وفي مقالة أخرى حملت عنوان «كيف يموت الفقراء؟»، يصف الإنجليزي الحانق مشاهداته في مشفى «كوشين» بإحدى ضواحي فرنسا، حيث تتضوع ردهاته برائحة الموت وتشي الأضواء الخافتة بأجل قريب يبدو في نظر الكثير من قاطنيه خلاصاً منتظراً ويعزو ذلك إلى اتجاه التفكير والذاكرة الطويلة من الماضي.
وبنزر يسير من المبالغة يقل كثيراً عن المبالغة في تكلفة اقتناء كتب تحمل قيمة معرفية وثقافية رفيعة يمكن لقارئ نابه أن يدرك معنى أن يجول بعينيه أرففاً تمتد لعشرات الأمتار وتحمل آلاف الكتب دون أن يعثر على كتاب تتعادل قيمتاه الفكرية والمعرفية بقيمته النقدية، أن يعتبر متجر الكتب كمشفى كوشين وأن يرى أفنيته القاتمة في الممرات الخلابة التي تزينها عبارات الكتب الأكثر مبيعاً والصادرة حديثاً فيما تملأها الكتب الرديئة التي تصف اتجاه التفكير والذائقة القرائية لدور النشر كما تمثل قوائمهم المالية ذاكرتها الطويلة، وأن يعتبر القراء كقاطني كوشين أو ما دعاهم أوريل «مشاريع موت» على اعتبار أن الكتب هي أدوات التشافي الفكري والنفسي وما تمثله رداءتها تجاه عقل القارئ وتكوينه المعرفي.
أخبار ذات صلة
قد تكون فكرة متحيزة ولكنها موائمة لتوصيف الكتب الرديئة التي يمتد نفوذها ليس ليحتل موضع الكتب القيمة فحسب بل لينحدر بالذائقة القرائية نحو مستوى متواضع، كما أنها ملائمة لوصف التكلفة المبالغ فيها للكتاب القيم التي نلحظها اليوم في متاجر الكتب ومنافذ بيعها.
كما يصف حبر الرواية الروسي فيودور دوستويفسكي في روايته الشهيرة «الفقراء» جانباً ذا صلة، إذ يصور من خلال إحدى رسائل «فارفارا دوبروسيلوفا» إلى «ماكار الكسيفيتيش» المعضلة التي واجهتها حين أرادت شراء مجموعة من المجلدات كان يرغب صديقها «بيكروفسكي» في اقتنائها لتهديها إليه وقد بلغت كلفتها 32 روبلا ونصف الروبل، جمعت منها بعد عناء طويل 30 روبلا، مما اضطرها إلى الاستعانة بوالده الذي كان يخطط لذات الأمر، ولكن وفاة بيكروفسكي سبقت ذلك، فاقترحت فارفارا أن تهتم بمراسم دفنه مقابل الكتب التي كان يملكها، ما أثار شجاراً بينها وبين والده الذي كان يرى في كتب بيكروفسكي صلة شعورية ستبقيه معه.
وبالرغم من أن دوستويفسكي أراد أن يصف الفقر كقامع للسعادة التي تتمثل أحد أوجهها في اقتناء الكتب إلا أنه لم يسلّم بحتمية ذلك حتى حين سبر أغواره وغاص عميقاً في أعماقه، كما هي عادته رأى أن القراءة أداة لمناهضته.
ومع أن الافتقار إلى مورد مستدام يبدو أمراً طبيعياً في مسيرة التاريخ البشري من منظور أورويل ودوستويفسكي أيضاً وهو أمر بدهي ومع أنهما اتفقا على أهمية القراءة كما سلما ضمناً بأن كلفة اقتناء الكتب باهظة لا سيما قياساً إلى حال متواضع لكنهما لم يصفا كيف يقرأ الفقراء، بيد أن اللافت أنهما لم يأتيا أيضاً على ذكر الكتب الرديئة ولم يريا منطقية قراءة كتاب متواضع المحتوى حتى في أكثر الأحوال عوزاً، ربما لأن معايير وضوابط إصدار الكتب التي كانت تشترطها دور النشر آنذاك لم تشجع على اقتراف الرداءة كما هي الآن.