قال الخبير الاقتصادي الأميركي ومؤلف كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي” جون بيركنز، إن حياته وأسرته كانت مهددة خلال فترة كتابته العمل الذي كشف كيف تستخدم أميركا أدوات اقتصادية للهيمنة على دول العالم الثالث.
وفي حلقة جديدة من برنامج “المقابلة” على قناة الجزيرة، أكد بيركنز أن ضغوطا هائلة مورست عليه من قبل جهات نافذة لمنع نشر الكتاب، بلغت حد تلقيه تهديدات مباشرة باستهداف ابنته الرضيعة إن لم يتوقف عن مشروعه.
وأوضح أن تلك التهديدات لم تكن من الحكومة الأميركية مباشرة، بل من جهات ترتبط بما سماه “الكوربوقراطية”، وهي شبكة تضم كبرى الشركات العالمية المتحالفة مع مؤسسات الدولة لتحقيق مصالح إستراتيجية مشتركة.
وأشار إلى أن كتابه الذي نُشر عام 2004 حوّل مساره المهني بالكامل، وحوله من شخصية مصرفية متخصصة في “الهندسة المالية للاستعمار الحديث” إلى ناشط سياسي يسعى إلى فضح أدوات الهيمنة الاقتصادية المعاصرة.
وأضاف أن تجربته كـ”قاتل اقتصادي” بدأت في السبعينيات حين عُيّن في شركة استشارات دولية كبرى، وبدأ في إعداد تقارير مالية مضللة لتضخيم حاجة دول نامية لقروض بمليارات الدولارات، لاستخدامها في مشاريع بنية تحتية ضخمة.
وبيّن أن الهدف من هذه القروض لم يكن دعم تلك الدول، بل إغراقها في ديون غير قابلة للسداد، تضمن تبعيتها السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، في إطار إستراتيجية وصفها بـ”الاستعمار المالي العصري”.
وذكر أن بلدانا عديدة في أميركا اللاتينية، وأخرى في آسيا والشرق الأوسط، كانت ساحة لتلك الممارسات، حيث يتم التلاعب بالقيادات المحلية من خلال الرشاوى أو التهديدات أو الانقلابات إن لزم الأمر.
إقناع بقروض ضخمة
وكشف بيركنز أن من بين أبرز مهامه في تلك الفترة، إقناع قادة الدول بأن القروض الضخمة ستؤدي إلى النمو، مع أن الدراسات الداخلية كانت تُظهر بوضوح أن الشعوب لن تجني من ذلك سوى الفقر والتبعية والبطالة.
ولفت إلى أن الدول المتضررة كانت تُجبر لاحقا على خصخصة قطاعاتها الحيوية وفتح أسواقها أمام الشركات الأميركية، مقابل إعادة جدولة ديونها، وهي سياسة وُضعت لضمان سيطرة واشنطن الدائمة على مقدرات تلك الدول.
وتحدث بيركنز عن محطات مفصلية دفعته إلى التمرد على هذا النظام، أبرزها اغتيال الرئيس الإكوادوري خايمي رولدوس عام 1981، والذي كان يرفض الانصياع للإملاءات الأميركية، وشعر بأنه كان مستهدفا من قبل النظام ذاته.
كما أشار إلى حادثة اغتيال الرئيس البنمي عمر توريخوس في العام نفسه، والتي هزّت قناعاته، وأدرك حينها أن اللعبة التي يعمل ضمنها ليست مجرد اقتصادات وأسواق، بل لعبة نفوذ دموي لا تعرف خطوطا حمراء.
وبيّن أنه قرر في بداية الثمانينيات التوقف عن العمل في مجال “القتل الاقتصادي”، وبدأ كتابة مذكراته، إلا أنه واجه ضغوطا كبيرة من شركات وعملاء سابقين لثنيه عن مواصلة مشروعه.
وأضاف أن إحدى الشركات عرضت عليه مبلغ نصف مليون دولار مقابل ألا يكتب أي شيء عن تجاربه السابقة، وهو ما وافق عليه حينها بسبب خوفه على أسرته، لكنه لم يلبث أن نكث الاتفاق بعد أن تفجرت في داخله مشاعر الغضب والندم.
حان وقت كشف الحقائق
وأوضح أنه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، شعر أن الوقت قد حان ليكشف الحقائق، خاصة بعدما لاحظ كيف استُخدمت تلك الهجمات لتبرير حروب جديدة وهيمنة اقتصادية متسارعة على مناطق مختلفة من العالم.
وبحسب بيركنز، فإن كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” بيع منه أكثر من مليون نسخة، وترجم إلى أكثر من 30 لغة، ما جعله مرجعا مهما في فهم كيف تمارس واشنطن هيمنتها من دون الحاجة إلى قوات عسكرية.
وأشار إلى أن العالم اليوم لم يتغير كثيرا، بل أصبح أكثر تعقيدا، إذ تطورت أدوات الهيمنة لتشمل التكنولوجيا الرقمية والاحتكارات الإعلامية، إلى جانب المؤسسات المالية العالمية.
واعتبر أن ما يجري في دول الجنوب اليوم، من أزمات ديون وانهيارات اقتصادية، ليس سوى استمرار للسياسات ذاتها، لكنها باتت أكثر ذكاءً وشرعية ظاهرية، وهو ما يجعل مواجهتها أكثر صعوبة.
وأكد أن الحل يكمن في وعي الشعوب بهذه السياسات، وإصرارها على بناء نظم اقتصادية عادلة ومستقلة، مشددا على ضرورة تعزيز التعليم وإشراك المجتمع المدني في صنع القرار الاقتصادي.
وأكد بيركنز على أنه لا يزال يتلقى رسائل تهديد بين حين وآخر، لكنه يرى أن مهمته باتت الآن أكبر من أي وقت مضى، “لأن ما يحدث اليوم هو نسخة جديدة من الاستعمار، يجب فضحها مهما كلف الثمن”.