تخيل أن قطعة أثرية أو مجوهرات ملكية، تكون معروضة قبل ساعات خلف زجاج متحف مؤمّن، يمكن أن تختفي دون أن تترك أثرا، ثم تعود للظهور بعد سنوات، بحلة جديدة في مزاد دولي، وبوثائق جديدة. هذا السيناريو أصبح واقعاً متكرراً، حيث صنّف تقرير الإنتربول لعام 2023 الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية ضمن أبرز أسواق الجريمة العالمية المنظمة، مقدراً خسائره بمليارات الدولارات سنوياً. هذه الجريمة المعقدة لا تقتصر على السرقة المباشرة، بل تتضمن شبكات واسعة من التهريب والتزوير وغسل الأموال.
تعتبر السرقة نفسها مجرد لحظة قصيرة في سلسلة طويلة من الأحداث. فقبل أن ينكسر الزجاج أو يفتح القفل، تبدأ مرحلة الاستطلاع، وهي الأكثر حساسية في العملية برمتها، وفقاً لليونسكو ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. تراقب العصابات مواقع العرض لأسابيع أو أشهر، وتدرس الحراسة، وتحدد المناطق الأقل مراقبة، وتقيس زوايا الكاميرات، وحتى حركة الزوار.
أهمية فهم آليات الاتجار بالممتلكات الثقافية
تشير التقارير الأمنية إلى أن المجرمين يستخدمون أدوات تصوير دقيقة مدمجة في نظارات وأقلام لجمع المعلومات التفصيلية. بالإضافة إلى ذلك، تستعين بعض الشبكات بخبراء في الفن لتحديد القطع الأكثر قيمة في السوق السوداء، والتي يسهل بيعها. القطع لا تُسرق بالضرورة لقيمتها النادرة، بل لقابليتها للتداول المالي، وسهولة إخفائها أو تفكيكها، وإعادة بيعها دون إثارة الشبهات.
حدثت أشهر العمليات التي أثارت اهتماماً عالمياً في 25 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2019 داخل متحف “القبو الأخضر” في دريسدن بألمانيا، والذي يضم واحدة من أعرق مجموعات المجوهرات الملكية الأوروبية. ورغم أن العملية وصفتها وسائل الإعلام بأنها “العملية التي تمت في 100 ثانية”، إلا أن عملية استهداف متحف اللوفر في باريس، في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتبرت الأخطر من حيث الدلالة والوقع العام.
خلال عملية “القبو الأخضر” استولت عصابة محترفة على 21 قطعة ملكية نادرة في غضون دقائق معدودة، ورغم حجم الخسارة، بقيت ضمن إطار سطو رفيع الاحتراف. أما عملية اللوفر، فقد وقعت في وضح النهار على مجوهرات التاج الفرنسي، وكشفت عن قصور أمني في المنشأة التي تعد رمزاً وطنياً، بحسب وصف وزير الثقافة الفرنسي الذي قال إن “العملية كشفت عن إخفاق غير مسبوق”.
رحلة القطع المسروقة: من السرقة إلى السوق السوداء
بعد خروج القطع الفنية أو المجوهرات من المتحف، تبدأ مرحلة الإخفاء الأولى، وهي الأكثر مراوغة. يمكن أن يتم تفكيك القطع الثمينة وإعادة تجميعها في قطع جديدة، أو إخفاؤها ونقلها إلى المشترين. وثق مكتب اليونسكو لعام 2020 أن القطع الأصلية يمكن استبدالها بنسخ عالية الدقة تُصنع في ورش سرية، خاصة في أوروبا الشرقية.
تنتقل القطع المسروقة عبر شحنات تحتوي على بضائع قانونية، أو عبر شركات نقل خاصة، أو عبر طرق عبور غير رسمية، خاصة في منطقة البلقان. تعتبر سويسرا، وتحديداً مدينة جنيف، الوجهة النهائية للعديد من هذه المسروقات، وذلك بفضل وجود “الفريبورت” أو المستودعات الحرة التي تسمح بتخزين البضائع عالية القيمة دون رسوم جمركية أو الكشف عن هوية المالك.
داخل هذه المستودعات، يمكن تزوير الوثائق المتعلقة بملكية القطع، وإعادة صياغة تاريخها، مما يجعلها تبدو قانونية في السوق السوداء. تعتمد المزادات الكبرى غالباً على الوثائق المقدمة من البائع، ولا تجري تحقيقات جنائية مستقلة إلا في حالات محدودة. هذا يسمح للقطع المسروقة بالظهور في المزادات العالمية ببيانات ملكية جديدة.
الجهود الدولية لمكافحة تهريب الآثار
تضطلع منظمات مثل الإنتربول واليوروبول بدور حيوي في مكافحة تهريب الآثار. تنفذ اليوروبول عمليات واسعة النطاق تعرف باسم “باندورا”، تشارك فيها أجهزة جمركية وشرطية من 30 دولة. كما أنشأت الولايات المتحدة فريقاً متخصصاً في استعادة الأعمال الفنية المسروقة، والذي حقق نجاحاً كبيراً في تتبع القطع المنهوبة.
ومع ذلك، لا تزال نسبة استعادة القطع المسروقة منخفضة، حيث لم تتجاوز 10% وفقاً لتقرير الإنتربول لعام 2023. يعزى ذلك إلى تعقيد الشبكات الإجرامية، وغياب الشفافية في بعض المستودعات الحرة، وصعوبة التحقق من الوثائق المزورة.
تعتبر سرقة الممتلكات الثقافية خسارة لا يمكن تعويضها للذاكرة الجماعية، حيث تتحول القطع التي كان من المفترض أن تكون متاحة للجمهور إلى ملكية خاصة. تؤكد اليونسكو أن اختفاء هذه القطع يشبه تمزيق صفحة من تاريخ الإنسانية.
من المتوقع أن تستمر الجهود الدولية لمكافحة الاتجار بالممتلكات الثقافية، مع التركيز على تعزيز التعاون بين الدول، وتحسين الرقابة الحدودية، وزيادة الشفافية في سوق الفن. في المستقبل القريب، من المرجح أن نشهد المزيد من التشديد على متطلبات الإفصاح عن ملكية القطع الفنية، وتطوير تقنيات جديدة للكشف عن التزوير. يبقى التحدي الأكبر هو تتبع الأموال التي تمول هذه الجريمة، وتفكيك الشبكات الإجرامية التي تقف وراءها.













