هل الواقع مبني على الذرات أم على الطاقة؟ هذا السؤال العميق، الذي يمس جوهر فهمنا للكون، أشعل جدلاً علمياً وفلسفياً مريرًا في أواخر القرن التاسع عشر. لم يكن هذا الخلاف مجرد نقاش أكاديمي، بل صراعًا حول الأسس التي تقوم عليها الفيزياء نفسها، وترك أثراً مأساويًا على حياة الفيزيائي النمساوي لودفيغ بولتزمان، المدافع الشرس عن النظرية الذرية.
في ذلك الوقت، كانت الفيزياء في منعطف حاسم، حيث شهدت الثورة الصناعية تقدمًا تكنولوجيًا هائلاً، لكن الأسس النظرية للعلم كانت تتزعزع. ظهرت مدرستان فكريتان متنافستان: أتباع الذرية الذين يرون أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة غير قابلة للتجزئة، وعلماء الطاقة الذين يعتقدون أن الطاقة هي المكون الأساسي للواقع، وأن مفهوم الذرة غير ضروري وربما خيالي.
الذريون: إحياء فكرة الجسيمات
الفكرة القائلة بأن المادة تتكون من جسيمات صغيرة ليست جديدة؛ فقد اقترحها الفيلسوفان اليونانيان ديمقريطس وليوكيبوس قبل أكثر من ألفي عام. ومع ذلك، ظلت الذرات مجرد مفهوم نظري، ولم يتمكن أحد من رؤيتها أو إثبات وجودها بشكل قاطع حتى القرن التاسع عشر.
على الرغم من ذلك، وجدت الكيمياء تفسيراً قوياً في النظرية الذرية، حيث ساعدت في فهم التفاعلات الكيميائية والتركيب الجزيئي. لكن بالنسبة للكثيرين، كانت الذرات مجرد أدوات رياضية مفيدة، وليست بالضرورة حقيقة فيزيائية ملموسة.
برز لودفيغ بولتزمان كأحد أبرز المدافعين عن الذرية. من خلال عمله الرائد في الميكانيكا الإحصائية، قدم بولتزمان طريقة جديدة لفهم سلوك الغازات والحرارة، حيث ربط بين الخصائص الماكروية مثل درجة الحرارة والضغط بالحركة العشوائية لعدد هائل من الذرات والجسيمات الصغيرة.
معادلته الشهيرة، S= K log(ω)، التي تربط الإنتروبيا (مقياس للفوضى) بالترتيبات المجهرية للذرات، كانت بمثابة حجر الزاوية في نظريته. بالنسبة لبولتزمان، لم يكن وجود الذرات مجرد فرضية، بل كان ضروريًا لشرح الظواهر الطبيعية.
علماء الطاقة: الطاقة هي الجوهر
لكن هذا الرأي لم يلقَ قبولاً عاماً. في ألمانيا، ظهرت مدرسة فكرية منافسة، بقيادة فيلهلم أوستوالد وإرنست ماخ، ترفض النظرية الذرية وتؤكد على أن الطاقة هي الحقيقة المطلقة.
جادل علماء الطاقة بأنه لا حاجة إلى اللجوء إلى مفهوم الذرات لشرح الظواهر الفيزيائية. فجميع التجارب والقياسات تتعلق بكميات قابلة للقياس مثل الحرارة والشغل والإشعاع، وليست بالضرورة مرتبطة بوجود جسيمات غير مرئية. بالنسبة لهم، كانت الذرية مجرد ميتافيزيقا مقنعة في زي العلم.
استندت فلسفة إرنست ماخ إلى الوضعية التجريبية، التي تؤكد على أن المعرفة يجب أن تنبع من التجربة الحسية المباشرة. رفض ماخ المفاهيم الميتافيزيقية التي لا يمكن رصدها، مثل المكان والزمان المطلقين في ميكانيكا نيوتن، وأصر على أن العلم يجب أن يصف العلاقات بين الظواهر المرئية، وليس الحقائق الخفية.
هذا التشكك تجاه الكيانات غير المرئية أثر بعمق على ألبرت أينشتاين، خاصة خلال تطويره لنظرية النسبية الخاصة. فانتقاد ماخ لفكرة الفضاء المطلق ألهم أينشتاين لاعتبار الحركة نسبية، ونبذ فكرة الإطار المرجعي الثابت غير المرئي.
على الرغم من أن أينشتاين تجاوز لاحقًا بعض جوانب التجريبية الصارمة لماخ، إلا أن إصرار ماخ على ترسيخ العلم في التجربة ساهم في تشكيل الثورة المفاهيمية التي أعادت تعريف المكان والزمان والحركة.
تصاعد الخلاف وتداعياته المأساوية
تصاعد الجدل بين الذريين وعلماء الطاقة بسرعة، وأصبح شخصيًا للغاية. رفض أوستوالد علماء الذرة لتمسكهم بفكرة اعتبرها عفا عليها الزمن، وسخر ماخ من حجج بولتزمان ووصفها بأنها تجاوزات افتراضية.
رد بولتزمان في محاضراته وأبحاثه، مستخدمًا الرياضيات ونظرية الاحتمالات والحدس للدفاع عن النظرية الذرية. لكنه غالبًا ما لم يلقَ آذانًا صاغية، وانجذب العديد من العلماء الشباب إلى رؤية علماء الطاقة لفيزياء خالية من الذرات.
لم تقتصر معاناة بولتزمان على الخلافات الأكاديمية؛ فقد عانى أيضًا من اضطراب ثنائي القطب، مما جعله يتأرجح بين نوبات الإبداع واليأس الشديد. فاقمت البيئة الأكاديمية العدائية حالته النفسية، وشعر بالعزلة والإحباط.
في عام 1906، بينما كان يقضي عطلته مع عائلته بالقرب من ترييستي، شنق بولتزمان نفسه. انتهت المبارزة، ولكن ليس بالنصر في قاعة المحاضرات، بل بصمت مأساوي على شاطئ البحر.
إثبات الذرات وإرث بولتزمان
من المفارقات أن وفاة بولتزمان جاءت في اللحظة التي كانت أطروحاته فيها على وشك الانتصار. ففي السنوات القليلة التالية، تزايدت الأدلة التجريبية على وجود الذرات. اكتشاف الإلكترون بواسطة ج. ج. طومسون عام 1897، وتفسير أينشتاين للحركة البراونية عام 1905، كانا بمثابة إثبات قاطع لصحة رؤية بولتزمان.
ومع ذلك، جاء الاعتراف متأخرًا جدًا بالنسبة لبولتزمان. اليوم، أصبحت النظرية الذرية حجر الزاوية في فهمنا للمادة والكون. كما أن عمل بولتزمان في الميكانيكا الإحصائية لا يزال ذا أهمية كبيرة في العديد من المجالات العلمية، بما في ذلك الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء.
تعد معادلة بولتزمان، المنقوشة على شاهدة قبره في فيينا، بمثابة تذكير دائم بإسهاماته الرائدة. إن قصة بولتزمان هي تذكير بأن العلم ليس مجرد سعي وراء الحقيقة، بل هو أيضًا جهد بشري يتأثر بالعواطف والتنافس والظروف الشخصية.
في المستقبل، من المتوقع أن يستمر البحث في فهم أعمق للجسيمات الأولية والقوى الأساسية التي تحكم الكون. ومع ذلك، فإن الأساس الذي وضعه بولتزمان، من خلال إصراره على وجود الذرات، سيظل دائمًا جزءًا لا يتجزأ من هذا السعي العلمي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.













