برحيل الفنان محمد حمزة، طُويت صفحة من صفحات الدراما العربية التي كُتبت بصدق التجربة، وغُذِّيت بروح المثقف، وصِيغت بحسّ إنساني نادر. لم يكن حمزة فناناً اعتيادياً يظهر في دورٍ ويغيب في آخر، بل كان صوتاً متفرداً، يُشرف على النص كما لو كان يسرد فصلاً من حياته، ويقف خلف الكاميرا كما يقف أمامها، متمسكاً بجماليات الفن ومسؤولياته معاً.
في زمن كانت فيه الدراما الخليجية تبحث عن هُويّة، لمع اسمه ككاتب ومنتج وممثل، جمع بين أدوات الحرفة ووهج الرسالة. فصنع من أعماله بيوتاً مفتوحة على واقع الناس، ومنصات للتأمل في تفاصيلهم، وتقاطعات مصائرهم. وبينما كانت معظم أعماله تُعرض في مواسم المشاهدة الأعلى، لم تكن غايته النجومية أو الأرقام، بل التأثير، ذلك الذي لا يُقاس إلا بدمعة صادقة، أو لحظة صمت أمام الشاشة.
مسلسل «أصابع الزمن» (1982) شكّل لحظة تحول في الدراما السعودية، ليس فقط بوصفه من أوائل الأعمال التي تناولت المجتمع بلغة درامية مركبة، بل لأنه قدّم نموذجاً فنياً متكاملاً، شاركه فيه كوكبة من الممثلين العرب، إلى جانب نجليه وائل ولؤي محمد حمزة، اللذين ظهرا منذ تلك اللحظة كامتداد عضوي لروحه الفنية. لم يكونا مجرد «أبناء ممثل»، بل رافقاه كتفاً بكتف، وأدّيا أدوارهما بروح من عاش النص قبل أن يُمثله.
أما «ليلة هروب» (1989)، فكان من تلك الأعمال التي يصعب الحديث عنها دون استحضار صداها العاطفي. كتبه حمزة بلغة داخلية عميقة، ولامس من خلاله جرح الإنسان الخفي: الخوف، الندم، والرغبة في الخلاص. وقد كانت دموع الجمهور يوم عرضه أصدق شهادة على تأثيره.
ثم جاء «قصر فوق الرمال» (1992)، ليؤكد نزعة حمزة نحو الأعمال التي تناقش التحولات الاجتماعية والبشرية بجرأة وهدوء في آنٍ واحد. لم يعتمد على ضجيج الصراعات، بل على نبض التفاصيل، وعلى الشخصيات التي تتغير من الداخل، بصمت.
وفي أعمال لاحقة مثل «أين الطريق»، و«دموع الرجال»، ومروراً بمسلسلات تاريخية مثل «الزير سالم»، و«بعثة الشهداء»، و«جمال الدين الأفغاني» حافظ على توازنه بين التوثيق والتشويق، بين الرسالة والدراما.
كان محمد حمزة من أوائل من فهموا أن الدراما ليست فقط مرآة المجتمع، بل وسيلة للتأثير فيه، وتشكيل وعيه. كتب بشغف العارف، وأنتج بإيمان من يرى في الفن مشروعاً للنهضة، ومثّل بتجرد من يبحث عن الحقيقة، لا عن التصفيق.
وإن كان بعض المجد يُشترى، فإن مجد محمد حمزة، صُنع بعرق الفكرة، وبالانتصار المتكرر على محدودية الإمكانات في زمنٍ لم تكن فيه الدراما الخليجية إلا مشروعاً وليداً. واليوم، حين نعود إلى أرشيفه لا نعود إلى الحنين، بل إلى درسٍ فني وإنساني في الإخلاص، والبناء، والبقاء.
أخبار ذات صلة