في العادة، حين يحدث انفجار هائل في الفضاء، يكون أمام الفلكيين سباقٌ قصير مع الزمن، فالانفجار عبارة عن ومضة لثوان، ثم خفوت سريع، ثم أسئلة تتكاثر أسرع من الضوء نفسه. لكن في 14 مارس/آذار 2025، جاء الإنذار هذه المرة من عمق غير مألوف، حيث رصد العلماء المستعر الأعظم بعيدا للغاية، وكأن الكون يرسل رسالة من طفولته الأولى. هذا الاكتشاف يقدم نظرة نادرة على المراحل الأولى للكون.
المستعر الأقدم
بعد شهور من المتابعة، أعلن مرصد جيمس ويب أنه لم يكتفِ بتعقّب أثر الانفجار، بل تأكد من هوية المصدر كمستعر أعظم حدث عندما كان عمر الكون نحو 730 مليون سنة فقط. هذا هو أقدم مستعر أعظم مؤكد حتى الآن، متجاوزا رقما سابقا لمحاولة رصد مماثلة عبر نفس المرصد، ويعود ذلك إلى زمن كان فيه عمر الكون 1.8 مليار سنة.
المستعر الأعظم هو انفجار نجمي هائل يحدث في نهاية حياة بعض النجوم، فيجعل النجم يزداد سطوعا فجأة لدرجة أنه قد يلمع مؤقتا أكثر من مجرّة كاملة، ثم يقذف مادته بسرعات عالية في الفضاء. غالبا ما يحدث بطريقتين: إما بنهاية حياة نجم ضخم ينهار قلبه تحت ثقله، أو باندماج قزم أبيض في نظام ثنائي يكتسب كتلة حتى يفقد استقراره.
رصد المجرة المضيفة
الأكثر إثارة للاهتمام هو أن مرصد ويب لم يكتفِ برصد الانفجار نفسه، بل قام برصد المجرة المضيفة لهذا المستعر الأعظم بدقة، رغم بعدها الشديد. تبدو المجرة كنقطة حمراء خافتة بالكاد تُرى، ولكن رصدها يمثل اختراقا علميا مهما. يتيح هذا الرصد دراسة البيئة التي نشأ فيها النجم المتفجر.
وفقًا لبيان صادر عن مرصد جيمس ويب، كان هذا الاكتشاف نتيجة تعاون دولي بين عدة مراصد. بدأ السباق مع الزمن بعد إنذار من مهمة “سفوم”، وهي مهمة فرنسية صينية مخصصة لرصد الظواهر الفضائية العابرة. بعد ساعة ونصف، حدد مرصد “سويفت” موقع المصدر بالأشعة السينية، مما سمح بتوجيه المراصاد الأخرى لعمليات رصد متتابعة.
بعد 11 ساعة، التقط التلسكوب البصري الاسكندنافي توهج ما بعد الانفجار في نطاق الأشعة تحت الحمراء. ثم، قدر التلسكوب الكبير جدًا في تشيلي أن الحدث يعود إلى زمن مبكر جدًا، يقارب 730 مليون سنة بعد الانفجار العظيم. دور مرصد ويب جاء حاسماً بفضل قدرته على التقاط المشهد بدقة عالية وحساسية فائقة باستخدام كاميرا “نيركام”.
لماذا هذا الرصد مهم؟
بعد التأكد من أن الضوء المرصود يعود إلى المستعر الأعظم، قارن الباحثون خصائصه بمستعرات أعظم حديثة وأقدم. خرجوا بنتيجة مثيرة للاهتمام، حيث تبين أن التشابه كبير. هذا الأمر مفاجئ، لأن النجوم الأولى يفترض أن تكون أفقر في العناصر الثقيلة (المعادن) وأكثر كتلة وأقصر عمراً. كما أنها عاشت في بيئة كونية مختلفة، حيث كان الغاز بين المجرات أكثر عتامة.
إذا كانت المكونات الأولية مختلفة، فلماذا يبدو الناتج النهائي مألوفاً؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب المزيد من عمليات الرصد وتتبع أحداث مشابهة. قد يسلط الضوء على اختلافات دقيقة لم يتمكن العلماء من رصدها بعد، وبالتالي فهم أفضل لتطور النجوم والمجرات في الكون المبكر. يعد هذا الاكتشاف دفعة قوية لدراسة تطور المجرات في بدايات الكون.
ويرتبط رصد المستعرات العظمى البعيدة أيضا بدراسة أصل العناصر الثقيلة مثل الحديد والكالسيوم، والتي تعتبر ضرورية لتكوين الكواكب والحياة. قد تساعد هذه الرصدات في فهم كيفية توزيع هذه العناصر في الكون المبكر، وكيف أثرت على تكوين المجرات الأولى.علم الفلك بشكل عام يستفيد من هذه الاكتشافات.
تتوقع فرق الباحثين الدولية مواصلة رصد هذا المستعر الأعظم في الأشهر والسنوات القادمة، باستخدام مجموعة متنوعة من التلسكوبات والمراصد. يهدفون إلى الحصول على المزيد من البيانات حول خصائصه وتطوره، ومقارنته مع مستعرات أعظم أخرى في الكون المبكر. قد تكشف هذه الدراسات عن معلومات جديدة حول طبيعة النجوم الأولى وكيفية انفجارها.
سيتم التركيز في المستقبل على تحليل البيانات الطيفية للمستعر الأعظم، والتي يمكن أن تكشف عن التركيب الكيميائي للمواد المنبعثة منه، وبالتالي فهم أفضل لعمليات الاحتراق النووي التي حدثت داخل النجم المتفجر. يراقب العلماء أيضا كيفية تأثير هذا الانفجار على البيئة المحيطة به، وكيف ساهم في تطور المجرة المضيفة. في الوقت الحالي، يمثل هذا المستعر الأعظم لغزا مثيرا للاهتمام ينتظر الحل.












