ودّعت مصر والعالم العربي المخرج الكبير داود عبد السيد، أحد أبرز صناع السينما المصرية، الذي رحل عن عالمنا عن عمر يناهز 79 عامًا. ترك المخرج الراحل إرثًا فنيًا وثقافيًا عميقًا، جعله يستحق لقب “فيلسوف السينما” لما قدمه من أعمال سينمائية متميزة تناولت قضايا اجتماعية وإنسانية معقدة. أعلنت زوجته، الكاتبة الصحفية كريمة كمال، نبأ وفاته عبر حسابها على فيسبوك، مما أثار موجة من الحزن في الأوساط الفنية والثقافية.
وأصدرت نقابة السينمائيين المصرية بيانًا رسميًا نعى فيه الراحل، واصفةً إياه بأنه أحد أهم المخرجين الذين ساهموا في إثراء السينما المصرية والعربية، وأكثرهم تأثيرًا في الحياة الثقافية، بالإضافة إلى دوره البارز في العمل النقابي. وقد عبرت العديد من الشخصيات الفنية عن حزنها العميق لرحيل عبد السيد، مشيدةً بموهبته الفذة وإسهاماته القيمة.
أزمة صحية ورحيل “فيلسوف السينما”
عانى داود عبد السيد من أزمة صحية خلال السنوات الأخيرة من حياته، حيث كشف الموسيقار راجح داود، وهو من أقاربه، أنه كان يعاني من فشل كلوي ويتلقى العلاج بشكل منتظم. كما صرح وزير الثقافة المصري أحمد هنو في وقت سابق بأن حالة عبد السيد الصحية كانت حرجة، مما استدعى نقله إلى المستشفى لتلقي الرعاية الطبية اللازمة.
على الرغم من هذه الظروف الصحية الصعبة، ظل عبد السيد محتفظًا بوعيه الفني والإنساني، ومتابعًا للأحداث الجارية. وقد أثرت هذه الأزمة على إنتاجه السينمائي، حيث توقف عن الإخراج لفترة قبل وفاته.
مسيرة فنية متميزة
بدأ داود عبد السيد مسيرته الفنية في أواخر الستينيات كمساعد مخرج، وعمل مع كبار المخرجين المصريين، من بينهم يوسف شاهين في فيلم “الأرض”. لكنه سرعان ما أدرك أنه يمتلك رؤية فنية خاصة به، وأنه يحتاج إلى خوض تجربته الإخراجية الخاصة لكي يتمكن من التعبير عن أفكاره ومشاعره.
تميزت أفلامه بالعمق الفكري والجمالي، واهتمامه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية. كما تميزت بشخصياتها الواقعية التي تعيش صراعات داخلية وخارجية، وتعبر عن آمال وأحلام الطبقات المهمشة في المجتمع. ومن أبرز أعماله “الصعاليك”، و”البحث عن سيد مرزوق”، و”الكيت كات”، و”سارق الفرح”، و”أرض الأحلام”، و”رسائل البحر”، و”قدرات غير عادية”.
اعتزال السينما وتأملات فنية
في يناير 2022، أعلن داود عبد السيد اعتزاله الإخراج، معللًا ذلك بعزوف المنتجين عن أعماله التي تتناول قضايا فكرية واجتماعية، وتحول اهتمام الجمهور نحو الترفيه الخالي من المعاني. وأشار إلى أنه يمتلك العديد من السيناريوهات الجاهزة، لكنه لم يجد من يرغب في إنتاجها.
لاحقًا، عاد عبد السيد للتعبير عن استعداده للعودة إلى الإخراج في حال توفر إنتاج جاد يدعم رؤيته الفنية. لكنه أكد أنه لن يقبل بالعمل على أي مشروع لا يتماشى مع مبادئه الفنية والإنسانية.
جوائز وتكريمات
حصل داود عبد السيد على العديد من الجوائز والتكريمات خلال مسيرته الفنية، تقديرًا لإسهاماته القيمة في السينما المصرية والعربية. فاز فيلمه الأول “الصعاليك” بجائزة العمل الأول من مهرجان أسوان الأكاديمي، وحصد فيلم “البحث عن سيد مرزوق” جوائز من مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان خريبكة للسينما الأفريقية.
كما فاز فيلم “الكيت كات” بالعديد من الجوائز المرموقة، بما في ذلك الجائزة الذهبية من مهرجان دمشق وجائزة السيناريو من مهرجان معهد العالم العربي في باريس. وقد تم تكريمه أيضًا في مهرجاني الإسكندرية والجونة السينمائيين، بالإضافة إلى مهرجان قرطاج السينمائي.
إرث سينمائي خالد
رحيل داود عبد السيد يمثل خسارة كبيرة للسينما المصرية والعربية. إلا أن إرثه الفني سيظل حيًا في ذاكرة الأجيال القادمة، وسيلهم المخرجين والفنانين لمواصلة البحث عن أشكال جديدة للتعبير عن الواقع والإنسان. وسيظل “فيلسوف السينما” رمزًا للإبداع والابتكار والالتزام الفني.
من المتوقع أن تشهد الأيام القادمة تنظيم العديد من الفعاليات لتأبين المخرج الراحل، واستعراض أعماله السينمائية. كما من المحتمل أن يتم إطلاق مبادرات للحفاظ على إرثه الفني وتشجيع الدراسات النقدية حول أعماله. وسيبقى تأثير داود عبد السيد حاضرًا في السينما المصرية والعربية لسنوات طويلة قادمة.













