حين نفتح باب الشعر في المشهد السعودي اليوم، يصعب ألا يطلّ علينا اسم عبدالمحسن يوسف، الشاعر الذي لا يُحب الضجيج، لكنه يترك قصائده تمضي إلى القلب كما يفعل المطر الكسول؛ لا يعصف، بل يتسلّل.
وديوانه الأخير «مطرٌ كسولٌ على الباب» لا يُقرأ بوصفه مجموعة شعرية فحسب، بل حالة أدبية، وفلسفة شعورية، ونصٌّ طويل النفس في أزمنة الشذرات.
العنوان.. قصيدةٌ تكفي وحدها
أن يُقال عن عنوان ديوان إنه «قصيدة»، فهذا تكريم لا يناله إلا القليل.
قال الروائي محمد الدعفيس إن «العنوان وحده قصيدة»، ووصَفه الناقد الجزائري الدكتور لونيس بن علي بأنه «على قدرٍ عالٍ من الشعرية»، فيما رأت فاتن مرتضى أن العنوان يكاد «يكون قصيدة مكتفية بذاتها، لرمزيّته وأبعاده وتفسيراته المتعددة».
الكاتب عبدالرحمن موكلي تأمل العلاقة العجيبة بين صفة الكسل، والمطر الذي لا يوصف في ثقافتنا بذلك، وقال: «الأشياء الطبيعية لا تُنعت بالكسل، لكن عبدالمحسن فتح باباً لغوياً جديداً.. هل سيدخل المطر؟ أم سيبقى واقفاً؟».
إنه تعليق يليق بالشعر العظيم الذي يُبقي الأسئلة معلّقة كالنور في نافذةٍ عالية.
وفي القصيدة التي حملت هذا العنوان المدهش، يكتب عبدالمحسن:
«ثمة ما يبهج الروح؛
ضحكُ أطفالي وهو يتدفق في الغرف..
شجرٌ في لوحةٍ -في صدر الحائط-
يميلُ، يميلُ، يحرسُ وردَ الأمل.
مطرٌ كسولٌ على الباب.
زرياب في الأغنية».
قصيدة صغيرة، لكنها تحمل فلسفة الحياة كما يراها شاعر لا يبحث عن الدراما، بل عن الشغف الهادئ، والدهشة التي تأتيك بلا استئذان.
جسد الديوان.. حين يتلوّن الشعر بلغة الإنسان
يتألف الديوان من 145 قصيدة، متوزعة بين التفعيلة والنثر، وفيها جميعاً يبدو الشعر عند عبدالمحسن يوسف نشاطاً روحيّاً، وعملية تطهير هادئة من ضجيج العالم، كما وصفه الكاتب السوداني عبدالناصر الحاج الذي قال:
«هذا الديوان يلامس سقوف التأمل، ويبعث نغماً موسيقيّاً، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يفتح الروح على المباهج الممكنة».
الكاتبة غادة التواتي اختصرت رأيها بكلمات لا تنسى:
«إنه تحفة.. مطر عبق، مدرار، وشجيّ كروح عبدالمحسن.
منذ زمن لم أقرأ ما يستحق أن يُقال عنه شعر».
بينما رأت الشاعرة نجوى العتيبي أن الديوان يقترب من القارئ بأسلوب «السهل المبدع»؛ أي تلك الكتابة التي تُشبهنا ولا تُرهبنا، وتستطيع أن تلامس أكثر القرّاء بعداً عن الشعر.
وتعليق الكاتب المغربي هشام بن الشاوي أضاء جانباً مهمّاً حين قال:
«عبدالمحسن ابن بيئته.. تفوح من قصائده رائحة اليود، والنوارس، والجزيرة.. بيوتٌ مشيدة بالريح».
هذا الحضور الفرساني (من جزيرة فرسان) ليس مجرد ديكور، بل نسيجٌ داخلي في القصيدة، يُغذّي خيالها، ويعطيها نكهتها البحرية الشفيفة.
الكاتب المثنى الشيخ عطية التقط هذا المشهد، فكتب:
«مطر يوسف يبلّ الشوق بعذوبة الذكريات، ويدخل القلب حاملاً ظلال الأم، والأب البحار، ونوارس الصباح، والطفولة المائلة في شوارع الحنين».
أما الكاتب المصري ماهر مهران فرفع الديوان إلى مصاف التجارب الفريدة، قائلاً:
«عبدالمحسن يوسف موهبة فطرية وصنعة بارعة في آن.
لم أتوقف عند تجربة ناضجة ولها خصوصيتها مثل هذه».
الشاعر الذي لا يطلب الانتباه.. ويأخذه
الدكتور عبدالعزيز المقالح قال قديماً:
«عبدالمحسن ليس بحاجة لمن يشهد بشاعريته».
ويبدو أن ديوان «مطرٌ كسولٌ على الباب» لم يفعل سوى تأكيد هذا الحكم المبكر.
الناقدة سلوى العباسي رأت في الديوان جداريّة شعرية معاصرة، تشبه فنون اللوحة والتسريد، بينما وصفت فاتن مرتضى الشاعر بأنه «من سلالة النور»، وهذه العبارة وحدها تكفي لتلخيص أثره الشعري.
ويأتي تعليق الكاتب عبدالرحمن سليلي ليضع عبدالمحسن في طليعة الحداثة، إذ قال:
«عمل جميل لشاعر من أهم أصوات الحداثة العربية».
أما الكاتب عثمان الغامدي فقد أعاد للمقالح صدى صوته، قائلاً:
«ديوانه العامر بالجمال هو الشعر، والسحر الحلال».
الناقد سعود الصاعدي أشار إلى العلاقة بين الشاعر والناشر، قائلاً إن هذا الديوان جاء نتيجة «توليفة بين شاعر مبدع ودار متألقة». وهو ما انعكس في المقدمة التي كتبها حسين بافقيه، ووصفها أحد القراء بأنها «محفزة على القراءة، وتُعيد الاعتبار للشاعر ومكانته التي يستحقها».
في الختام: حين يميل الشجر في القصيدة، لا بد أن المطر سيطرق.
«مطرٌ كسولٌ على الباب» ليس ديواناً عابراً.
إنه كتاب عن البهجة الممكنة، عن الحنان الهادئ، عن الشعر الذي لا يصيح، لكنه يبقى.
قصائده تُقرأ اليوم، وتُعاد قراءتها بعد أسبوع، وتُكتشف فيها نبرات جديدة كل مرة.
وهذا هو الشعر الحقيقي.
عبدالمحسن يوسف كتب ديواناً لا يطلب الإذن بالدخول.
بل يترك المطر الكسول يفعل ذلك عنه.. ويكفيه أن القارئ، ما إن يقرأ العنوان، حتى يشعر أن قلبه قد فُتح.
أخبار ذات صلة