القدس المحتلة – تشهد القارة الأوروبية اتساعا غير مسبوق في أنشطة النقابات العمالية الرافضة لنقل الأسلحة والعتاد العسكري إلى إسرائيل، بسبب استخدامها المباشر في الحرب على قطاع غزة، التي تصفها النقابات بأنها “إبادة جماعية”.
ولم تعد هذه التحركات محلية أو معزولة، بل تحولت إلى شبكة تضامن عابرة للحدود، طالت الموانئ والمطارات في إيطاليا وفرنسا وبلجيكا واليونان والسويد وبريطانيا، ما أدى لتعطيل سلسلة الإمداد البحري والجوي لإسرائيل بشكل متزايد، إلى جانب تعطيل جماعة أنصار الله (الحوثيين) الملاحة في البحر الأحمر.
ومع اتساع رقعة هذه الأنشطة وتزايد تأثيرها على سلاسل التوريد العسكرية لإسرائيل، ترسم النقابات العمالية الأوروبية ملامح جبهة ضغط جديدة على إسرائيل، رافضة أن تكون الموانئ والمطارات الأوروبية جسورا لنقل السلاح إلى حرب توصف بالإبادة.
عصيان العمال
وجاءت هذه التطورات المتلاحقة بعد خطوة مفصلية تمثَّلت في قرار المستشار الألماني فريدريش ميرتس حظر توريد الأسلحة لإسرائيل، ما أضاف زخما كبيرا للحراك النقابي الأوروبي.
وفي تحقيق استقصائي بعنوان “حظر اللجان.. كيف منعت النقابات العمالية في الموانئ الأوروبية شحنات معدات عسكرية إلى إسرائيل”، أعدّه الصحفي ميلان تشيرني لصالح موقع “شومريم” والقناة الـ12 الإسرائيلية، تتكشف تفاصيل مثيرة عن اتساع نطاق العصيان العمالي ضد شحن السلاح إلى تل أبيب.
ويبرز ميناء “فوس سور مير”، قرب مرسيليا جنوب فرنسا، كمسرح لواحدة من أبرز هذه المحطات. ففي الشهر الماضي، يقول تشيرني “عكف عمال الميناء على البحث بين آلاف الحاويات عن شحنة محددة يشتبه بأنها تحتوي على مكونات أسلحة موجهة إلى إسرائيل، وكان من المقرر تحميلها على متن السفينة “كونتشيب إيرا”.
وبسبب صعوبة تحديد مكانها، تواصلت لجنة عمال الميناء الفرنسي مع زملائهم بميناء جنوة الإيطالي، حيث كان من المقرر أن ترسو السفينة لاحقا، وطلبوا منهم الاستعداد للتدخل في حال فشلوا هم في منع مرور الشحنة، وقد تجاوب الإيطاليون بسرعة، معلنين استعدادهم لتعطيل المسار.
وتطورت القصة حين دخلت على الخط منظمة قانونية فرنسية تدعى “جوردي”، وقدمت استئنافا أمام محكمة محلية، ما أدى لاحتجاز السفينة لعدة أيام قبل أن تبحر في النهاية دون حمولتها المشبوهة. ويقول المحامي وعضو المنظمة الفرنسية ألفونسو دورادو “رفض عمال الميناء تحميل الحاويات، هذا نصرنا الصغير”.
لكن فرنسا لم تكن الاستثناء، فقد بادرت نقابات عمالية في إيطاليا، واليونان، وبلجيكا، والمغرب، والسويد إلى تحركات مشابهة، بعضها اتخذ شكل إجراءات مباشرة وفعالة حالت بالفعل دون وصول شحنات عسكرية إلى إسرائيل.
آثار التعطيل
وهذه الجهود، مع القيود الرسمية التي تفرضها دول أوروبية على بيع أو نقل الأسلحة، إضافة لتهديدات الحوثيين المستمرة في البحر الأحمر التي تعرقل الشحن من آسيا، شكلت مجتمعة ضغطا متزايدا على سلسلة التوريد العسكرية الإسرائيلية، حسب ما ورد في التحقيق الاستقصائي.
ووفق مصادر مطلعة، تحدثت إليها القناة الـ12 الإسرائيلية، يعتمد الإنتاج الدفاعي في إسرائيل على شبكة معقدة من الموردين الدوليين، وأي تعطل في وصول مكوّن صغير قد يؤدي إلى تأخيرات ممتدة ويترك انعكاسات إستراتيجية مباشرة على القدرات العسكرية.
وبدأت قصة تعطيل الشحنات العسكرية المتجهة إلى إسرائيل من ميناء “فوس سور مير” في أبريل/نيسان الماضي، عندما قام عمال الميناء بتفتيش إحدى الشحنات المشتبه باحتوائها على مكونات لطائرات مقاتلة، ولم يعرف مصير تلك الشحنة حتى الآن، غير أن الحادثة سرعان ما انعكست على حركة الملاحة.
وفي منتصف يوليو/تموز، أعلنت نقابة عمال ميناء “بيريوس” في اليونان أن عمالها رفضوا تفريغ شحنة من الفولاذ مخصصة للاستخدام العسكري والمتجهة لإسرائيل، وكانت معدة للنقل من سفينة إلى أخرى.
وفي بلجيكا، دعت 4 منظمات عمالية لوقف شحنات من قطع غيار يزعم أنها كانت متجهة إلى مصنع ينتج مكونات دبابة ميركافا، وكان من المفترض أن تمر عبر ميناء أنتويرب، ثاني أكبر ميناء بأوروبا.
أما في السويد، فقد صوت 68% من أعضاء نقابة عمال الموانئ في يناير/كانون الثاني لصالح مقاطعة جميع الشحنات العسكرية من وإلى إسرائيل، وتبرز أمثلة أخرى من موانئ في إيطاليا والمغرب.

قيود وتداعيات
ولم تقتصر الضغوط على النقابات العمالية، إذ انضمت دول بدورها إلى فرض قيود مباشرة على مرور الأسلحة، ففي خطوة جماعية، أعلن أعضاء مجموعة لاهاي، التي تضم بلدانا مثل بوليفيا وتشيلي وكوبا وكولومبيا وماليزيا وجنوب أفريقيا وغيرها، حظرا شاملا لتوريد الأسلحة إلى إسرائيل، ومنع السفن المحملة بالأسلحة من الرسو في موانئها. وقبل ذلك، كانت كل من إسبانيا وتركيا قد اتخذتا إجراءات مشابهة لتقييد تصدير ونقل الأسلحة إلى إسرائيل.
ولم تقتصر الاعتراضات على الموانئ البحرية، بل امتدت للمطارات أيضا، ففي مطار شارل ديغول بباريس، اكتشف العمال أن شحنة من العربات المدرعة المخصصة لشركة إلبيت الإسرائيلية كان من المفترض أن تمر عبر المطار.
وقد تأخرت هذه الشحنة في أوروبا لنحو شهر كامل، عقب إغلاق المجال الجوي الإسرائيلي ردا على الهجوم الإيراني، لتصبح في متناول معلومات عدة نقابات عمالية، من سائقي الشاحنات إلى عمال المراكز اللوجيستية، الذين نسقوا جهودهم لإيقافها.
ويرى مدير مركز الأمن القومي والديمقراطية في معهد الديمقراطية الإسرائيلي الدكتور عيران شامير بورير أن حملات الحظر على الشحنات العسكرية ليست جديدة، لكنها تشتد وتتوسع بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة.
ويضيف في حديث للموقع الإلكتروني “شومريم” “سابقا، كانت مشاكل سلسلة التوريد أصغر حجما وأقل انتظاما، وتركزت بالأساس على الضغط العام والإجراءات القانونية، أما اليوم فنحن أمام تعبئة نقابية دولية غير مسبوقة، وهذا يجب أن يقلق إسرائيل”.
وحذر شامير بورير من أن تداعيات هذه التعبئة قد تكون بعيدة المدى، موضحا أنه بينما تحاول إسرائيل التقليل من شأن الاحتجاجات، “فإن عدم قدرة الأجهزة الأمنية على الحصول على مكون صغير وضروري من بلد آخر قد يعني ببساطة غيابه عند الحاجة”، ما يفرض -برأيه- “تداعيات اقتصادية وتشغيلية خطيرة، وتحول الموانئ والمطارات الأوروبية إلى ساحة مواجهة جديدة”.