Published On 3/9/2025
|
آخر تحديث: 11:53 (توقيت مكة)
وجود الزعيم السابق لحزب النهضة راشد الغنوشي الذي دافع عن فكرة “المسلم الديمقراطي”، خلف القضبان في سن الرابعة والثمانين، دليل على أن “الحداثيين” في تونس قد انحرفوا نحو الفكر الاستبدادي.
بهذه الجملة لخصت مجلة لوبس الفرنسية مقالا للكاتبة التونسية هالة الباجي رأت فيه أن اعتقال راشد الغنوشي وإدانته من أبشع المظالم التي ارتكبتها الدولة التونسية، خاصة أنه من أبرز رموز السلمية الثورية.
40 عاما بتهمة “مؤامرة إرهابية”
ووصفت الكاتبة مناظرة حضرتها لجبهة الإنقاذ الوطني، وهي مجموعة من المقاومين ضد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، اعتقل عدد من أعضائها، ومع أن الوضع كان خطيرا، فقد كان الجو مرحا، يذكّر بعصر آخر، حيث تحدث الجميع دون محرمات، مدفوعين بالحقيقة والعدالة.
وتتذكر الكاتبة أن راشد الغنوشي كان حاضرا منصتا صامتا، ثم دُعي للتحدث، فتحدث بنبرة طبيعية، وبلهجة مرحة أحيانا، فلم يكن كلامه خطابا دينيا ولا خطبة ظلامية، ولا هراء لاهوتيا، بل كان فكرا فلسفيا.
وفي ذلك المساء -كما تقول هالة الباجي- ألقى راشد الغنوشي خطابا “علمانيا” بامتياز، تحدث فيه بثبات عن عداء هذه العصابة للانتقال الديمقراطي، وآثر التسامح رغم الافتراءات التي تعرض لها، ورفض الأساليب التعسفية التي عانى منها هو وأمثاله كثيرا، مظهرا قبولا للتنوع السياسي الذي بدونه لا يمكن تحقيق سلام أهلي.
والغريب -كما تقول الكاتبة- أنني في اليوم التالي، علمت بكل دهشة أنني شاهدت “مؤامرة” من “الخونة” يحضرون “مخططا إرهابيا” ضد “أمن الدولة” بهدف إشعال “حرب أهلية”.
واعتقل الغنوشي ليلا في مداهمة مسلحة أثناء وجبة عائلية وفُتش، وحرم من محاميه، وأجبر على النوم طوال الليل على كرسي، وهو في الرابعة والثمانين من عمره، ثم حكمت عليه المحكمة بالسجن 40 عاما، ولو لم أكن شاهدة على هذا الاجتماع، لربما ابتلعت هذه الكذبة والخرافة، مثل الطيبين الذين يُطعمون دائما بالهراء، حسب قول هالة.
من أبرز رموز السلمية الثورية
وذكّرت الكاتبة بأن تونس أدرجت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 في دستورها الثوري لعام 2014، مشيرة إلى أن الغنوشي كان من أبرز رموز السلمية الثورية، لأنه رفض الانغماس في الكراهية الأيديولوجية، مفضلا مبدأ العدالة على غريزة الانتقام.
الغنوشي آثر التسامح رغم الافتراءات التي تعرض لها، ورفض الأساليب التعسفية التي عانى منها هو وأمثاله كثيرا، وأظهر قبولا للتنوع السياسي الذي بدونه لا يمكن تحقيق سلام أهلي
وبعد أن طورد الغنوشي كمتعصب طوال حياته، تقول هالة، كان أول من دعا إلى المصالحة مع خصومه الدستوريين، ولم يكن هناك ما يمنعه، بعد فوز حزب النهضة الساحق في الانتخابات عام 2011، من تطبيق قانون الأقوى، ولكنه لم يفعل شيئا، واختار التفاوض والحوار، ومد يده، فقُيدت يداه.
وبعد 10 سنوات من الثورة التونسية التي أذهلت العالم عام 2011، انهار الوعد الديمقراطي، ومنذ 25 يوليو/تموز 2021 أصبحت الحريات التي كانت مرفوعة، مكروهة، وأفسحت أرواح الثورة الكريمة المجال لسخرية الأنانية والكراهية، كما تقول الكاتبة.
وعندها -حسب الكاتبة- غزت لغة سامة قلوب الناس ودمرت عقولهم، وسيطرت على المجتمع الذي تحرر من العبودية بشجاعة، رغبة جامحة في استعادتها، وبعد إحدى أكثر انتفاضات القرن الحادي والعشرين أصالة، انقلبت الثورة على عبقريتها السلمية، وحطت من قيمة مثلها الحضارية، وألقت بنخبها المستنيرة في قاع جهنم.

هكذا قضى الحداثيون على الديمقراطية
عندما أعادت الثورة التونسية حقوق الإنسان لأعضاء حزب النهضة، لم يقبل “الحداثيون” بذلك قط، ولم يطيقوا إشراكهم في دولة كانوا يتمتعون بها حصريا لمدة 3 أرباع قرن، لأن فكرة أن “الإسلاميين” قد هزموهم في الانتخابات وحصلوا على صفة “المنتخبين” كانت خانقة بالنسبة لهم.
استغل هؤلاء التقدميون الوطنيون، أو الحداثيون الوطنيون، الانفتاح الثوري لإعادة إشعال فتيل الحرب الأيديولوجية بين العلمانيين والشخصيات الدينية، وانتهكوا القسم الدستوري الذي وضع حدا للتعصب والإقصاء.
ولأنهم اعتادوا على الحكم المنفرد، لم يكونوا منصفين، وبذلوا قصارى جهدهم للتخلص من “إسلاميي” النهضة بتصفية النظام الذي منحهم الحق في الوجود وهو الديمقراطية، فأزيحت صفة الدستور جانبا وتبددت الثورة كسراب، وتضاعف التعسف والوحشية بعد أن تحرر منهما البلد بشراسة، وأزيحت الديمقراطية جانبا.
الحرية شرط أساسي للتقدم
لعب راشد الغنوشي دورا غير معروف وغير مفهوم في تاريخ الاستقلال دون ديمقراطية، وفرضت الدولة القومية نموذجا شموليا للتقدم دون حرية، واليوم -كما تقول هالة الباجي- يبدو أن الحرية هي شرط التقدم، ولم ير الغنوشي في الإيمان الديني عائقا أمام الحرية، وهذا هو المعنى الذي يتبناه لفكرة “المسلم الديمقراطي”، وهو إسلام قائم على الإرادة الحرة للفرد.
ويرى الغنوشي أن هذا الإسلام هو الوحيد القادر على التغلب على العنف الظلامي والجهادي من الداخل، لأن المسلم الديمقراطي مناهض للتعصب، ولذلك لم يضطهد الغنوشي قط الكفار ولا اللادينيين ولا العلمانيين ولا حتى غير الممارسين لتعاليم دينهم، ولكنهم اضطهدوه باسم عبادة الدولة، وفقا للكاتبة.

التقدمية الوطنية ما بعد الاستعمارية معادية للإنسانية
قالت الكاتبة إنها أدركت من خلال محاضرة 25 أبريل/نيسان حجم الشر الذي سمم الحياة الوطنية لعقود، وربطت ذلك بجهل الدين كحس حي وشخصي، وكجوهر داخلي لا يمكن بدونه تحقيق أي تقدم حقيقي.
وخلصت هالة الباجي إلى أن التقدمية الوطنية ما بعد الاستعمارية معادية للإنسانية، لأنها بنيت على سحق حرية الضمير، وعلى البؤس الأخلاقي للفرد، وعنف الدولة باسم التقدم، وازدراء الكرامة، وتهميش الدين لماض محتقر.
ومع أن التقدميين الوطنيين لم يقروا قط بتورطهم المباشر في القمع الشمولي، فإن التقدمية الوطنية هي التي أنتجت هذه الحداثة المشوهة، المنفصلة عن قيمة الفرد، بلا ضمير ولا رادع، ولذلك فشل هؤلاء فشلا ذريعا في تحديث مجتمعهم.
وختمت الكاتبة بظهور الغنوشي ليلة هجوم دبابات الجيش على البرلمان، عند أبواب قصر باردو لحماية الدستور، ومنع جندي له من ذلك، ورأت أن هذه المواجهة تجسد الكارثة الراهنة، إذ لم يوضح أحد للجندي قط أن فقدان الأمة للدستور يعني نهايتها.