على عكس التوقعات السائدة حول “نهاية الوظائف”، يُظهر تقرير صادر عن صحيفة الإيكونوميست أن الذكاء الاصطناعي لا يقضي على فرص العمل فحسب، بل يخلق أيضًا وظائف جديدة تمامًا. هذه الوظائف الجديدة تركز بشكل أساسي على المهارات الإنسانية التي يصعب أتمتتها، مثل الفهم والتواصل والحكم الأخلاقي وإدارة المخاطر. ويشير التقرير إلى تحول ملحوظ في سوق العمل بفضل تطورات الذكاء الاصطناعي.
ويستهل التقرير بمثال لافت للانتباه، وهو إعلان وظيفة لـ “مهندس زر الإيقاف” في شركة أوبن إيه آي. هذه الوظيفة، وإن بدت ساخرة، تعكس القلق المتزايد بشأن إمكانية خروج أنظمة الذكاء الاصطناعي عن السيطرة. ومع ذلك، تؤكد الإيكونوميست أن الواقع يشير إلى طلب متزايد على الكفاءات البشرية.
من تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي إلى نشرها
لا يقتصر دور الوظائف الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي على مهام بسيطة مثل وسم البيانات. بل تطورت لتشمل خبراء متخصصين في مجالات متنوعة مثل المالية والقانون والطب. يساهم هؤلاء الخبراء في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي ببيانات عالية الجودة ومعرفة سياقية دقيقة، مما يعزز من دقة وكفاءة هذه النماذج.
وتشير الإيكونوميست إلى شركة “ميركور” كنموذج للشركات الناشئة التي تستثمر في هذا المجال. بنت “ميركور” منصة لتوظيف متخصصين وعلماء للمساعدة في بناء “وكلاء ذكيين”، وقد بلغت قيمتها السوقية 10 مليارات دولار. ويبلغ متوسط الأجر الذي يتقاضاه العاملون عبر منصتها حوالي 90 دولارًا في الساعة.
ظهور “مهندسي النشر الميداني”
بعد مرحلة التدريب، تظهر فئة وظيفية جديدة تسمى “مهندسو النشر الميداني”. هؤلاء هم فرق تعمل داخل المؤسسات لدمج أنظمة الذكاء الاصطناعي في العمليات اليومية. يتطلب هذا الدور مزيجًا من المهارات التقنية والاستشارية والتجارية.
تعتبر شركة “بالانتير” من الشركات الرائدة في تبني هذا النموذج. ينتقل مهندسو النشر من “بالانتير” ميدانيًا إلى مواقع العملاء لتكييف الأنظمة الذكية مع احتياجاتهم الخاصة. وقد شهد عدد الوظائف من هذا النوع زيادة كبيرة مؤخرًا.
مركز القيمة الجديد: المهارات الإنسانية
مع انتشار الوكلاء الأذكياء، يزداد الطلب على فهم أعمق للسلوك البشري والبيئات التي يتفاعل فيها الذكاء الاصطناعي مع البشر. هذا يبرز أهمية المهارات الإنسانية في سوق العمل الجديد.
وتورد الإيكونوميست مثال شركة “وايمو” المتخصصة في سيارات الأجرة ذاتية القيادة. على الرغم من أن السيارات تقود نفسها تلقائيًا، إلا أنه في حالة حدوث عطل أو مشكلة، هناك حاجة إلى “مشغل بشري من بُعد” للتعامل مع الموقف وتهدئة الركاب.
ويقول هيمانشو بالسولي، الرئيس التنفيذي لشركة “كورناستون أون ديماند”، أن تقييم مهندسي البرمجيات لم يعد يقتصر على قدرتهم على كتابة الشيفرة البرمجية. فالآن، تعتبر الشخصية والمهارات التواصلية والتعاطف والحكم السليم من العوامل الرئيسية في تحديد قيمتهم في سوق العمل.
ويشير التقرير أيضًا إلى أن الوظائف التي تشهد أسرع نمو في الوقت الحالي ليست وظائف مبرمجي الذكاء الاصطناعي، بل الوظائف المتعلقة بمخاطر وحوكمة الذكاء الاصطناعي. هذه الوظائف تتطلب وضع القواعد والضمانات اللازمة لضمان استخدام الأنظمة الذكية بشكل آمن ومسؤول.
وقد أظهرت دراسة أجراها “اتحاد قوى عمل الذكاء الاصطناعي” أن هذه الفئة تتصدر نمو الوظائف التقنية في الاقتصادات المتقدمة. بالإضافة إلى ذلك، تزداد الحاجة إلى “مديري الذكاء الاصطناعي” داخل الإدارات العليا للشركات، والذين يجمعون بين الخبرة التقنية والمعرفة الصناعية والقدرة على إعادة هندسة العمليات.
مستقبل سوق العمل والذكاء الاصطناعي
يؤكد التقرير في الختام أن الذكاء الاصطناعي لا يقضي على الوظائف، بل يعيد تعريفها بشكل جذري. تتزايد أهمية المهارات الإنسانية، مثل التعاطف والحكم والمسؤولية، في سوق العمل الجديد. يبدو أن التوجه المستقبلي هو نحو التكامل بين الذكاء الاصطناعي والكفاءات البشرية، وليس الاستبدال الكامل.
من المتوقع أن نشهد في المستقبل القريب المزيد من الشركات التي تتبنى هذا النموذج، وزيادة في الطلب على المتخصصين في مجالات الذكاء الاصطناعي والمهارات الإنسانية. ومع ذلك، لا تزال هناك بعض التحديات والعقبات التي يجب التغلب عليها، مثل ضمان تدريب العمال على المهارات الجديدة، وتوفير فرص عمل عادلة للجميع.












