أربعون يوماً مضت على واحدة من أبشع المجازر التي شهدها الساحل السوري، حيث ارتُكبت جرائم لن تُمحى من ذاكرة أبنائه. اليوم، وبعد أسابيع من الخوف والصدمة، تحاول هذه المدن استعادة نبضها الطبيعي، ولو بشكل خجول ومتردد. ومع الجهود المبذولة من قبل المجتمع الأهلي لتخفيف الأعباء، يظل الواقع بحاجة إلى دعم أكبر وأكثر تنظيماً لتجاوز التداعيات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الأحداث.
حي القصور والعودة الحذرة
في بانياس، وفي حي القصور الذي كان مسرحاً لأكبر مجزرة، لا يزال الخوف يخيّم على النفوس. الكثيرون من العائلات التي كانت تسكن الحي كمستأجرين قرروا الرحيل إلى قراهم في الريف هرباً من أي تداعيات مستقبلية.
يقول أبو محمد ليورونيوز، أحد سكان الحي الذين عادوا بعد فترة نزوح: “غادرنا بيوتنا عندما رأينا الموت بأعيننا. الآن، وبعد أن بدأت الحياة تعود تدريجياً، عدنا لإصلاح ما دمرته الرصاصات، لكن الجروح لم تلتئم بعد”.
المحال التجارية التي اشتعلت فيها النيران أثناء الأحداث، وما زالت آثار الحرق والنهب واضحة عليها، تحاول بعض العائلات إعادة إعمارها. يروي الحاج أبو علي، صاحب محل لبيع المواد الغذائية، مشهد الدمار قائلاً: “لم يتبقَ من محلي سوى الجدران المحترقة، لكنني قررت إعادة ترميمه لأنني أؤمن بأن الحياة يجب أن تستمر”. ومع ذلك، فإن هذه المحال تفتح أبوابها بشكل خجول، وتغلق في الثالثة عصراً، رغم وجود عناصر الأمن الذين يتعاملون مع الناس بلطف واحترام، كما يشير بعض السكان.
لكن الثقة لا تزال غائبة. يتحدث سامر، أحد سكان الحي، عن مخاوف الليل: “عدم توفر الإضاءة في الشوارع يزيد من قلقنا. الجميع يخشى الخروج بعد الغروب، حتى لو كانت الأمور تبدو أكثر هدوءاً نهاراً”. ويضيف: “نحن نتابع التحقيقات التي تجريها الجهات المعنية، ونأمل أن تؤدي إلى تحقيق العدالة واستعادة ممتلكاتنا المسروقة”.
دور المجتمع الأهلي: مساعدات طفيفة لكنها ضرورية
لعب المجتمع الأهلي دوراً محورياً في تحسين الواقع ولو بشكل طفيف. في ظل الحاجة الملحة إلى أضعاف مضاعفة من المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية، تمكنت بعض الجمعيات الخيرية والمتطوعين من إيصال الدعم العاجل للأسر المتضررة.
يقول المهندس علي، أحد الناشطين في مجال العمل الأهلي: “قمنا بتوزيع المساعدات الغذائية والمستلزمات الطبية على الأسر التي فقدت كل شيء. لكن الواقع يحتاج إلى جهود أكبر بكثير، خاصة فيما يتعلق بترميم المحال التجارية التي احترقت ونهبت، حتى يتمكن الناس من استئناف نشاطاتهم الاقتصادية والاجتماعية”.
المدارس: عودة الطلاب وسط أجواء من الخوف والفقدان
على صعيد التعليم، عاد الطلاب إلى مقاعد الدراسة بعد أسابيع من الانقطاع القسري. لكن الأيام الأولى كانت مليئة بالخوف والقلق، حيث افتقد العديد من الطلاب لأصدقائهم الذين قضوا في المجازر، لا سيما في حي القصور في بانياس وفي قرى ريف جبلة. تقول المعلمة هبة: “كان مشهداً مؤلماً أن نرى الأطفال يسألون عن زملائهم الذين لن يعودوا أبداً. عملنا جاهدين على تقديم الدعم النفسي لهم، لأنهم بحاجة إلى وقت طويل لتجاوز الصدمة”.
طرطوس وجبلة: فارق بسيط في التعافي
في طرطوس، يبدو الوضع مختلفاً نوعاً ما. تقول أم أحمد، وهي من سكان المدينة: “الأمور هنا أفضل بكثير من بانياس. الأسواق مفتوحة بشكل طبيعي، والناس يتحركون بحيوية أكبر”. لكنها تشير أيضاً إلى أن الجو العام لا يزال يحمل شيئاً من التوتر.
أما في جبلة، فتبدو المدينة في مرحلة إعادة الإعمار وإحياء النشاط الاقتصادي. رغم أن الحركة الليلية شبه معدومة إلا للضرورة، لكن هناك مؤشرات إيجابية على الأرض. يوضح عبدو، صاحب محل للألبسة: “الناس بدأوا يعودون تدريجياً، وحركة الأسواق بين اللاذقية وجبلة تتحسن. لكن الحركة نحو الريف ما زالت ضعيفة بسبب الخوف المستمر وخصوصاً مع تعرض بعض الفتيات للخطف وحتى الآن مصيرهم مجهول”.
اللاذقية: بصيص أمل في الليل
في اللاذقية، يبدو المشهد أكثر اعتدالاً مقارنة بمدن أخرى مثل بانياس وجبلة. الحركة فيها أفضل نسبياً، والناس بدأت تستعيد شيئاً من حياتها الطبيعية. يوضح أحمد، أحد سكان المدينة: “في الأيام الأخيرة، بدأنا نلاحظ عودة النشاط ليلاً، حيث تبقى الأسواق مفتوحة حتى الساعة العاشرة مساءً. هذا عامل أمان مهم يبعث الطمأنينة في نفوس المواطنين”. ومع ذلك، لا تزال هناك دعوات مستمرة لإبعاد الفصائل المسلحة الأجنبية عن المنطقة، وضمان سيطرة الدولة على الوضع الأمني.
حركة النقل والحواجز الأمنية
على صعيد التنقل بين المحافظات والساحل، بدت الحركة جيدة نسبياً بالنسبة للكثيرين. أبو محمود، أحد سائقي الشاحنات الذين يترددون بين حمص وطرطوس، يتحدث عن تجربته قائلاً: “الحواجز المنتشرة على الطريق من حمص حتى طرطوس توحي بالأمن والأمان. التعامل مع الجميع جيد، وهذا يبعث الطمأنينة في نفوس المسافرين”. ومع ذلك، يشير إلى أن البعض لا يزال يتجنب التنقل إلا للضرورة القصوى، خوفاً من أي تداعيات غير متوقعة.
من جهة أخرى، جاء الإعلان عن خطوة منح البطاقات المدنية الجديدة على من قاموا بإجراء تسويات أمنية كعامل إيجابي يعزز الاستقرار في المنطقة. يقول عبدالله، عسكري سابق: “استلام البطاقة المدنية يعني بالنسبة لي بداية جديدة. إنه دليل على أن الأمور تسير نحو الأفضل، وأننا نستطيع العودة إلى حياتنا الطبيعية”.
وقف التحريض الطائفي وإعادة النسيج الاجتماعي
من بين أبرز التداعيات التي خلفتها الأحداث الأخيرة، كانالتحريض الطائفيالذي فاقم الانقسامات داخل المجتمع السوري. لذلك، تتعالى اليوم الأصوات التي تنادي بإجراء مصالحات وطنية كبرى تهدف إلى إعادة اللُحمة بين أبناء الوطن الواحد. يؤكد الشيخ أحمد، وهو شخصية دينية بارزة في طرطوس: “ما حدث كان نتيجة خطابات تحريضية أججت نيران الكراهية. الآن، يجب أن نعمل جميعاً على بناء الجسور بين مختلف الطوائف والمكونات السورية”. ويضيف: “نحن نطالب بإعادة الموظفين إلى وظائفهم، وفتح أبواب الحوار بين الجميع لضمان استقرار دائم”.
الساحل وجهة سياحية: آمال بالانتعاش الاقتصادي
مع اقتراب فصل الصيف، تتصاعد الأصوات المطالبة بتحويل الساحل السوري إلى وجهة سياحية رئيسية. يقول الدكتور سامر أحد أبناء اللاذقية: “السياحة هي مفتاح التنمية الاقتصادية للساحل وسوريا عموماً. إذا ما تمكنا من استعادة الأمن والاستقرار، يمكننا جذب الزوار واستعادة الحياة الاقتصادية”. ويضيف: “الحكومة السورية معنية اليوم بتحسين البنية التحتية وتسويق الساحل كوجهة آمنة ومميزة”.
وحدة سوريا… شعار يجمع الكل
في خضم هذه التحديات، يظل شعار “وحدة سوريا” هو الركيزة الأساسية التي يتفق عليها الجميع. سواء في بانياس أو طرطوس أو اللاذقية، يؤكد المواطنون رفضهم لأي دعوات تقسيم أو انفصال. يقول أبو جمال، أحد وجهاء مدينة جبلة: “سوريا واحدة، ولا يمكننا أن نقبل بأي مخططات تقسيمية. الحل الوحيد هو التعايش بين جميع أبنائها”.