بعد 77 عاما من انفصال باكستان عن شبه القارة الهندية، وبعد أن نشبت ثلاثة حروب بين الدولتين، لم تعرف الهند وباكستان السلام الداخلي حتى الآن، فباكستان التي قامت أصلا كدولة لمسلمي الهند، شهدت الكثير من التفجيرات وأعمال العنف ذات الطابع الطائفي خلال السنوات الماضية. أما الهند التي تقطنها أغلبية هندوسية مع نحو مائتي مليون من المسلمين الذين رفض أسلافهم أصلا أن يغادروا بلادهم إلى باكستان، فهي تشهد من سنوات صعود “قومية” متطرفة تضطهد المسلمين وتطالب بإلغاء الطابع العلماني للدولة التي تقوم على أساس تعدد الأجناس والقوميات واللغات والأديان، وأن تصبح الهند دولة “هندوسية”.
التوتر بين الدولتين الجارتين لايزال قائما. والاتهامات المتبادلة وانعدام الثقة قائم بما ينعكس سلبا على مشاعر المواطنين على جانبي الحدود. هذه المتشابهات الفارقة دفعت المخرجة الباكستانية صبيحة سومر (56 سنة) خريجة جامعة كِمبردج، إلى القيام برحلة طويلة عبر كل من الهند وباكستان، تبحث في التناقضات القائمة، ترصد وتتوقف وتحلل وتطرح التساؤلات عن المستقبل، من خلال التحقيق والمقابلات مع مستويات متعددة من البشر: من المسؤولين إلى الفلاحين البسطاء وفقراء سكان الريف.
فرقة الشعوب.. ضريبة الفرقة والمكر السياسي
النتيجة هي هذا الفيلم الوثائقي المدهش “أزمائش: رحلة في شبه القارة الهندية” (Azmaish: A Journey Through the Subcontinent)، الذي عرض في مهرجان لندن السينمائي 2017. و”أزمائش” كلمة معناها بلغة الأوردو “محاكمة”. المخرجة صبيحة سومر أرادت أن تعثر بنفسها على إجابات عما يشغلها من أسئلة، من بسطاء الناس بشأن طبيعة العلاقة بين الدولتين النوويتين أولا، ثم لماذا وكيف تتراجع العلمانية والانفتاح على الآخر في كل منهما لصالح بروز النزعات الدينية والقومية المتشددة.
لماذا أصبح لا غنى الآن عن مزج الدين بالسياسة، وهل كان أمام الفلاحين والفقراء والمحرومين فرص أتيحت أمامهم عبر عقود طويلة من سيادة الدولة المدنية، لكي تصل أصواتهم من خلال “الديمقراطية” واللعبة السياسية أي من خلال ممثليهم ونوابهم في البرلمان، وهو ما كان يفترض أن يتيحه لهم النظام السياسي القائم على التعددية الذي تأسس بعد خروج الاستعمار البريطاني من الهند عام 1947، ثم منذ بداية السبعينيات في باكستان.
كراتشي.. باكستانيون مهاجرون من الهند
صبيحة سومر ولدت في كراتشي وهي بالتالي تعرف المناخ الذي تعيشه باكستان، لكنها أيضا قضت عشر سنوات من حياتها في الهند التي جاء منها والدها أصلا بعد تأسيس باكستان.
ولأنها أرادت الرد المباشر على الصور الشائعة في الإعلام الغربي بوجه خاص عن أشكال التناقض بين الدولتين و”الشعبين” اللذين هما في الأصل والأساس، شعب واحد، اختارت هي أن تصوغ فيلمها الوثائقي (85 دقيقة) من خلال التدخل المباشر بالتعليق الصوتي والظهور مباشرة بنفسها في الكثير من مشاهد الفيلم، والقيام بزيارات معدة سلفا لبعض المناطق الريفية التي تسيطر عليها القبائل في السند كما زارت كراتشي ولاهور، وفي الهند ذهبت إلى هاريانا ومومباي ودلهي.
إنها تستطيع دائما أن تتحاور مع الرجال، تجالسهم، تشاركهم الطعام، توجه الأسئلة الصعبة إلى القادة الأقوياء دون تردد أو وجل، كما في المقابلة التي تجريها مع نائب في البرلمان الباكستاني وهو في الوقت نفسه زعيم قبيلة مرموق في منطقته وأحد كبار ملاك الأراضي، فهو يمتلك آلاف الأفدنة، ومجمعا من القصور الفخمة تتوقف أمامها بالكاميرا ثم تسأله صبيحة عنها فيقول ببساطة دون أن يشرح كيف تحقق هذا الثراء، إن والده هو الذي شيدها وإنه كان مغرما بالعيش الرغيد، بل ويصحبها لكي تشاهد أيضا مقتنيات والده من السيارات، أسطول مكون من عشرين سيارة من أفخر الأنواع بما فيها سيارات صنعت خصيصا له مثل الرولزرويس وغيرها.
إنها تعرف كيف تحاوره دون أن تثير استفزازه فهي مثلا لا تسأله كيف يمكن أن يكون هناك مثل هذا الثراء في منطقة فقيرة يعاني سكانها من الحرمان؟ لكنها تسأله عن الناس ولماذا يعيدون انتخابه دائما لعضوية البرلمان، وماذا بوسعه أن يقدم لهم، فيقول إن الناس في المنطقة تحترم أسرته، وإنهم يوفرون لهم الحماية، وإنه حريص على النزول بنفسه إليهم، وإن عائلته تضمن بقاء المنطقة خالية من النزاعات القبلية.
وعندما تسأله عن النساء ولماذا لا ترى منهن أحدا في هذا القصر يخبرها بأن نساء القبيلة لا يقمن في هذه القصور بل في مكان آخر مخصص لهن. أما عن علاقة العائلة بالسياسة فيقول إنهم جاءوا إلى هذه المنطقة عام 1947 وهم الذين أصلحوا تلك الأراضي، وكان كبار العائلة من الموقعين على الدستور الأول للبلاد، ثم يضيف أن النساء ليس لهن دور سياسي.
ضياء الحق.. البطل القومي وحليف الأفغان
عن مشكلة الإرهاب الذي تواجهه البلاد، يقول الرجل إن المشكلة بدأت من عهد ضياء الحق الذي تحالف مع الأمريكيين لقتال السوفيت في أفغانستان، ومن هنا تدفق المقاتلون على باكستان وتدفق المال والسلاح، وبعد ذلك أصبح مقاتلو طالبان أبطالا في أنظار الناس. أما لماذا لم تحقق الديمقراطية للباكستانيين أحلامهم، وهل السبب يعود إلى غياب العدالة، يوافقها الرجل ويضيف إنه لا توجد حرية حقيقية في البلاد، لكن صبيحة لا تتعمق في هذا الجانب أي جانب التناقضات الطبقية التي يعتبر هو أكبر من يجسدها.
وفي مشهد أسطوري يهبط الزعيم من سيارته وسط عشرات الآلاف من البشر الذين تجمعوا في الساحة الرئيسية في البلدة، يهتفون بحياته ويرشون سيارته بالورود، ثم يعتلي شرفة تطل على الساحة الرئيسية في البلدة ويلقي خطبة يقابلها الناس بالهتاف والتهليل. وعندما توجه لبعضهم أسئلة عن علاقتهم بهذا الزعيم القوي، يتحدثون عنه وهم يضفون هالة مقدسة عليه كما لو كان يحمل قدرات خاصة هبطت عليه من السماء.
إنه مثال حي لقوة المال في الحياة السياسية. لكنه في الوقت نفسه نموذج لسيطرة الإقطاع والقيم القبلية على الحياة السياسية فهو يشرح لها أنه في حالة وقوع أي نزاعات يلجؤون إلى ما يطلق عليه “المحكمة المفتوحة” أي الحلول العرفية التي تحدث خارج القانون العام في الدولة.
أما انتشار العنف فهو كما يشرح الرجل أصبح أبلغ دليل على فقدان الدولة السيطرة. ويتساءل في استنكار: هل من يقومون بتفجير المساجد مسلمون؟ ويخلص إلى أنهم لابد أن يكونوا عملاء قادمين من الخارج.
وفي رحلة صيد مع هذا الزعيم، نراه وهو يصوب بندقيته ويقتل غزالا صغيرا، يسقط مضرجا في دمائه ثم يحمله الحراس إلى السيارة باعتباره صيدا خاصا. إنه مشهد شديد القسوة لكنها تختتم به هذا الجزء من الفيلم الذي أرادت من خلاله تجسيد بشاعة الواقع الذي يعيشه البسطاء.
تتذكر صبيحة طفولتها السعيدة مع أسرتها من الطبقة الوسطى الثرية، من خلال الكثير من اللقطات السينمائية التي تظهر فيها وهي طفلة في أول زيارة لها إلى الهند، نراها في السيارة بجوار والدها، ولقطات للمعابد والآثار الهندية الشهيرة. وفي الفيلم الكثير من المقاطع الشخصية التي تعود من خلالها إلى الماضي خاصة حينما تنتقل إلى كراتشي لتقارن بين مجتمع الأمس ومجتمع اليوم.
بريطانيا.. سبب تقسيم شبه القارة الهندية
تشرح صبيحة موضوع التقسيم فتقول إن البريطانيين كانوا يرغبون في أن يظل المسلمون الهنود جزءا من الهند لكن والدها وأمثاله من القياديين كانوا يريدون لمسلمي الهند أن يتمتعوا بنفس الحقوق مثل الهندوس، ورغم أن نهرو كان قد تعهد بذلك إلا أن المساواة لم تتحقق على أرض الواقع.
وتتساءل صبيحة ونحن نشاهد لقطات متعددة من الحياة اليومية في الشارع في مدينة مومباي ماذا يمكن أن يقول والدها اليوم والهند تشهد التغير الدرامي في اتجاه صعود الحزب القومي الهندي الذي يطالب- وتلقى دعوته تأييدا كبيرا- بأن تكون الهند للهندوس فقط، أي التخلي عن العلمانية والتمسك بالهوية الدينية. لقد أصبح القوميون الهنود يطالبون كما نرى في الفيلم، بتغيير العلم الثلاثي الذي يمثل الهندوس والأقليات الأخرى إلى اللون البرتقالي الذي يرمز للهندوس، وقد جعلوه علمهم الذي يرفعونه في تجمعاتهم.
وهي تصور مظاهر هذا الهوس القومي كما تتجسد في الاستعراضات التي تقام في الشوارع والساحات، واللافتات والشعارات التي يرفعها القوميون الهندوس المتطرفون، وتحاور الكثير من المنتمين لهذه الحركة، ومنهم بعض اليساريين والليبراليين الذين لا يجدون تناقضا بين تحقيق تقدم صناعي وعلمي وتكنولوجي وبين أن تصبح الهند مجتمعا للهندوس، بل إن أحد من تجري معهم مقابلات يقول إنه لن يكون هناك أي صراع بين الهندوس والمسلمين بسبب اختلاف العبادة إذا ما عاد الهنود المسلمون إلى الهندوسية (ألم يكونوا أصلا هندوسا واعتنقوا الاسلام؟ فلماذا لا يعودون إلينا؟)!
في الهند التي غادرتها صبيحة عام 2008 بعد عشر سنوات من الإقامة، وتعود إليها اليوم، تحاول أن تفهم كيف يتم المزج بين سياسة الاقتصاد الحر والعودة إلى الدين. وهي تحتاج إلى من يرشدها ويرافقها في رحلتها الاستكشافية هذه، فتتصل بصديقتها الممثلة التي تعمل في بوليوود “كالكي كويشلين” (وهي نصف فرنسية نصف هندية) لتصحبها في جولاتها وزياراتها لمدن عدة بل وتصور أيضا بعض المناقشات التي تجري بينهما بالاشتراك مع صديقتين أخريين أثناء تناول الطعام.
في باكستان.. البساطة والتدين
وفي الجزء الثالث من الفيلم تعود صبيحة إلى باكستان ولكن بصحبة كالكي لكي تقترب أكثر هذه المرة من الناس العاديين في الريف، حيث تشيع القيم الدينية المحافظة. في هذه المناطق تكون الشكوى الرئيسية للناس هي من البطالة والفقر وغياب المدارس التي يتعلم فيها أطفالهم وعدم توفر المستشفيات للعلاج. ومن هنا يريد الفيلم التركيز على فكرة البيئة الصالحة لبروز التطرف.
تتضح الصورة تدريجيا خلال الرحلة الطويلة. والفيلم هو أساسا رحلة استكشافية مثيرة تنتقل بين الريف والمدينة، وتشمل الانتقال بالسيارة والقطار، تركز الكاميرا خلالها على الوجوه، تقترب منها، تريد أن تسبر أغوارها، ويتمتع الفيلم بقدر من التلقائية في التصوير لدرجة أننا نشاهد كيف تقوم جماعة قروية بطرد المخرجة عندما تلح في ضرورة التحدث إلى النساء بل وتحتج على منعهن من الظهور، بدعوى أن هذا ما تفرضه التقاليد.
إنه عمل جرئ شجاع يلخص هاجسا شخصيا ولكنه يمزجه ببراعة بالقضية العامة التي تشغل المخرجة- المؤلفة التي تعتبر نموذجا لمثقفة تنتمي إلى عصر مضى. صحيح أنها تقف مندهشة أمام ما وقع من تغيير، لكنها تبدو في دهشتها صادقة الرغبة أولا في فهم أسباب التردي الاجتماعي الذي حدث منذ الاستقلال، وثانيا الرغبة في التأكيد على أن العودة إلى اعتبار الهوية هي الدين فقط لن تكون في صالح الشعوب، وأنها ستفاقم الانقسام والصراع أكثر مما تحقق السلام بين الجارتين الكبيرتين. وهي رسالة واضحة للعالم.