يتصدر العراق قائمة أكثر الدول المنتجة للنفط، وفي الوقت ذاته هو ثاني أكثر دولة، بعد روسيا، تحرق الغاز المصاحب، إذ تعمد الشركات النفطية إلى حرق الغاز باعتباره أقل كلفة من معالجته وبيعه. ومنذ القدم عندما بدأ العالم بإنتاج النفط، اقترن معه حرق الغاز الصادر أثناء استخراج النفط الخام، إلا أن هذا الغاز المحترق مصدر كبير لتلوث الهواء وانبعاثات الغازات الدفيئة والمسببة للسرطانات.
قامت الشركات المشغلة للحقول النفطية في محافظة البصرة جنوبي العراق بحرق ما نسبته أكبر من 50% من الغاز المصاحب سنويا خلال السنوات الخمس الماضية، وأدى ذلك إلى انبعاث مركبات كيمياوية خطيرة بتركيزات عالية على الهواء ولها صلة بزيادة أعداد الإصابات بالأمراض السرطانية، خاصة في مركز المحافظة التي تتصدر أعداد الإصابات بنسبة 76.3 لكل 100 ألف شخص في عام 2020 يليها قضاء الزبير ثم القرنة (وهي مناطق تتبع للبصرة)، وفقا لآخر دراسة بحثية منشورة في عام 2021 أجرتها جامعة ميسان.
البحث عن الدليل
لا يستطيع العراقي حسين جلود استرجاع ابنه الذي توفي بسرطان الدم، ولكنه يعمل جاهدا على استرجاع حقه ومحاسبة قاتليه بالفوز بمعركة قضائية ضد شركة عملت على حرق الغاز في أكبر حقل نفط بالعراق مسببا إصابة علي بالسرطان نتيجة الملوثات الناجمة عن عملية الحرق، وفق اعتقاده.
وقد أشار تقرير تقويم الأداء التخصصي الصادر عن ديوان الرقابة المالية الاتحادي العراقي لشهر يونيو/حزيران 2023 إلى ارتفاع تركيزات الهيدروكربونات غير الميثانية المسببة للسرطانات في جميع نقاط الرصد في حقول نفط البصرة إلى درجة تتجاوز الحدود المسموح بها، وفق المحدد الوطني البالغ 0.24 جزء في المليون لكل 3 ساعات.
لم يكن الطفل علي حسين العراقي الوحيد الذي توفي نتيجة إصابته باللوكيميا (سرطان الدم) جراء التلوث الناتج عن حرق الغاز المصاحب للنفط في الرميلة بالقرب من مدينة البصرة جنوبي العراق، فهناك فاطمة وعباس وكاظمية و خلدون وغيرهم كثير، هؤلاء الذين تقترب مجتمعاتهم المحلية من حقول النفط وخاصة شعلات احتراق الغاز في البصرة، وفق رئيس منظمة طبيعة العراق جاسم الأسدي.
أما مسؤول ملف البيئة والطاقة وتغير المناخ في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، مامونور راشد، فيرى -في تصريح للجزيرة نت- أنه “لا يوجد أي إثبات علمي حتى الآن يدل على أن حرق الغاز المصاحب السبب الرئيسي للإصابة بالسرطان في البصرة”، لكنه يؤكد أن “هناك روابط منطقية إذ يعتقد أن حرق الغاز له عامل مساهم مباشر في التسبب في الإصابة بالسرطان أو تحفيزه”.
وفي حين أن الدراسات المحددة التي تركز حصريا على العلاقة بين حرق الغاز والسرطان في العراق محدودة، فإن هناك أدلة على ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في المناطق التي تعاني من حرق الغاز بكثافة، ومحافظة البصرة مثال على ذلك، وفق حديثه.
ومع افتقاد العراق للدراسات المباشرة، يرى راشد -في حديثه للجزيرة نت- أنه من الممكن القياس على تجارب أخرى ذات ممارسات مماثلة لاستخراج النفط، إذ وثقت الدراسات التي أجريت في دلتا النيجر في نيجيريا، وهي منطقة أخرى تعاني من حرق الغاز على نطاق واسع كما العراق، زيادة معدلات الإصابة بالسرطان وغير ذلك من المشاكل الصحية في المجتمعات القريبة من مواقع حرق الغاز.
مواد ملوثة ومسرطنة
عند حرق الغاز تنبعث العديد من المركبات العضوية المتطايرة، ومن ذلك البنزين والتولوين والزيلين والفورمالدهيد، ومن المعروف أنها مواد ملوثة ومسرطنة، وترتبط بقوة بسرطان الدم وغيره من أنواع السرطان المرتبطة بالدم، والتعرض الطويل الأمد لها يمكن أن يزيد كثيرا من خطر الإصابة بالسرطان، وفق قوله.
ويؤكد راشد أن الحرق أيضًا يؤدي إلى إطلاق الهيدروكربونات العطرية المتعددة الحلقات، ومن المعروف أنها مسرطنة ويمكن أن تسبب سرطان الرئة والجلد والمثانة عند التعرض لها مدة طويلة، وتعدّ الديوكسينات والفيورانات مسببة للسرطان بشكل كبير وقد تم ربطها بالسرطان مثل سرطان الغدد الليمفاوية وسرطان الكبد.
وعن الطرق الأكثر خطورة للإصابة المباشرة، يقول راشد إنها الاستنشاق، إذ تتعرض المجتمعات التي تعيش بالقرب من مواقع استخراج النفط لخطر أكبر لأنها تتنفس هواء ملوثًا يحتوي على مركبات مسرطنة. ويمكن أن تؤدي ملامسة الجلد للتربة أو الماء الملوث، أو حتى مع جزيئات الهواء، إلى امتصاص المواد المسرطنة، وذلك يزيد من خطر الإصابة بسرطان الجلد.
أما عن الطرق غير المباشرة، فيقول رشيد إنه من الممكن أن تستقر الملوثات الناتجة عن حرق الغاز على المحاصيل، أو في مصادر المياه، أو على الأسطح، وذلك يؤدي إلى ابتلاعها من خلال الطعام والماء، وهذا التعرض غير المباشر يمكن أن يسهم أيضًا في تطور السرطان.
أما الخطر الأكبر هو ذاك الذي يواجه العمال المشاركين في استخراج النفط والعاملين على مقربة من مواقع حرق النفط بسبب تعرضهم المتزايد للمواد المسرطنة، فغالبًا ما تكون تدابير الحماية غير كافية مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان بين هذه المجموعة، وفق حديثه.
الأمر لا يقف عند البشر
لا يقتصر ضرر عملية حرق الغاز المصاحب للنفط عن كونها مسرطنة وإنما أيضا من الممكن أن تسبب أمراضا تنفسية، ومن ذلك الربو والتهاب الشعب الهوائية، فيمكن أن يسبب الحرق الصداع والدوار وأعراضا عصبية أخرى بسبب إطلاق مواد كيميائية سامة، وفق راشد.
أما عن البيئة فهي ليست بعيدة عن تلك المخاطر، إذ يقول المتخصص في شؤون الطاقة في البصرة، عادل صادق وكر، للجزيرة نت، إن “حرق الغاز له تأثير كبير على البيئة لأنه يتسبب في دخول الملوثات للهواء، فينتج عنها ارتفاع حاد في نسبة تلوث الهواء الذي ينعكس على التنوع البيئي وعلى المساحات الزراعية، وهذا بات واضحا في المناطق العراقية التي توجد بها أحواض النفط”.
ويرى وكر أن عملية الحرق تحدث ضررا بيئيا على الزراعة باعتبارها تسبب تغييرا ديموغرافيا وتزيد من تغوّل المناطق النفطية باتجاه المناطق الزراعية ومن ثم تصحرها، كما تتسبب عملية حرق الغاز في هدر الأموال الباهظة التي تحتاجها عملية الحرق ويشكل ذلك هدرا للمال العام، وما يجعلنا ندق ناقوس الخطر هو أن الضرر البيئي الناتج عن عملية الحرق أمر خطير وليس من السهل معالجته.
يحذر مامونور راشد من استمرار عمليات حرق الغاز المصاحب دون رادع، لأن الأضرار الطويلة المدى ستكون شديدة، وستؤدي إلى تسريع وتيرة تغير المناخ، وتلوث التربة والمياه، وفقدان التنوع البيولوجي.
ويشير راشد إلى أن عملية الحرق تهدد الحياة البرية المحلية، لأنها تؤدي إلى إرباك الحيوانات الليلية وتعطيل أنماط الهجرة، وتهدد تدهور نوعية الهواء والتربة والمياه التنوع البيولوجي بشكل أكبر.
حرق الغاز وظاهرة الاحتباس الحراري
يتفق الخبيران أن حرق الغاز يؤدي إلى إطلاق الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، التي تؤدي إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، إذ يعد الميثان ضارا بشكل خاص لأنه أقوى بكثير من ثاني أكسيد الكربون. وعلى الصعيد العالمي، يسهم حرق الغاز بحوالي 1-2% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويا.
ويقول راشد إن حرق الغاز يؤدي إلى إطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، وهو أحد الغازات الدفيئة الرئيسية التي تسهم في ظاهرة الاحتباس الحراري. وغالبًا ما يتم إطلاق غاز الميثان، ويؤدي حرق الغاز كذلك إلى انبعاث ملوثات مثل ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين والمركبات العضوية المتطايرة والجسيمات، التي يمكن أن تؤدي إلى تدهور جودة الهواء.
ويمكن أن يتحد ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين المنبعثة أثناء حرق الغاز مع بخار الماء في الغلاف الجوي لتكوين أحماض الكبريتيك والنيتريك، ومن ثم هطول الأمطار الحمضية التي تتسبب في الإضرار بالنظم البيئية عن طريق زيادة حموضة التربة والمسطحات المائية، وإتلاف الحياة النباتية، والإضرار بالحياة المائية.
ما الحل؟
لا يهدر العراق ثرواته فقط بحرق الغاز المصاحب للنفط، بل يخسر أيضا باستيراد الغاز من الدول المجاورة لسد حاجته من الطاقة، على الرغم من إمكانية استثمار الغاز المحروق في الإنتاج وسد احتياجات البلد من الكهرباء.
ويعدّ إنتاج الطاقة من الغاز بدلا من حرقه حلا من ضمن حلول عدة يسردها راشد، وتتمثل في:
- اتباع نهج متعدد الأوجه يجمع بين الإصلاح التنظيمي والاستثمار التكنولوجي والتعاون الدولي والمشاركة المجتمعية.
- إدخال قوانين المسؤولية البيئية، وجعل متطلبات الإبلاغ والشفافية إلزامية للشركات.
- يمكن للحكومات أن تضع أهدافًا إلزامية للحد من حرق الغاز، وذلك يتطلب من الشركات تقليل حرق الغاز تدريجيا مع مرور الوقت. وينبغي أن يؤدي عدم الامتثال لعقوبات مثل تعليق العمليات، أو إلغاء التراخيص، أو اتخاذ إجراءات قانونية.
- إلزام الشركات تحمل المسؤولية القانونية عن الأضرار البيئية الناجمة عن إحراق الغاز. ويشمل ذلك دفع تكاليف العلاج، وتعويض المجتمعات المتضررة، ومعالجة الآثار البيئية الطويلة المدى.
- مطالبة الشركات بالإبلاغ عن أنشطة حرق الغاز وبيانات الانبعاثات بشفافية. ويجب أن يؤدي الفشل في تقديم معلومات دقيقة أو الانخراط في ممارسات خادعة إلى فرض عقوبات قانونية.
- وضع مبادئ توجيهية قانونية وتنظيمية واضحة، وتنفيذ المراقبة وإعداد التقارير الروتينية، وإنشاء هيئة تنظيمية مستقلة من خلال وضع لوائح صارمة تحد من حرق الغاز.
- إنشاء نظام قوي لمراقبة أنشطة حرق الغاز باستخدام تكنولوجيا الأقمار الصناعية وعمليات التفتيش الأرضية.
- التأكد من أن شركات النفط ستقوم بالإبلاغ الإلزامي عن كميات حرق الغاز بشكل منتظم وإتاحة هذه البيانات للجمهور، ويحتاج العراق أيضا إلى إنشاء وكالة مستقلة تتمتع بسلطة إنفاذ الأنظمة، ومراقبة الالتزام بها، وفرض العقوبات. وهذا أمر ضروري وينبغي تمكين هذه الهيئة من التصرف الحاسم ضد المخالفين.
- الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وحرق الغاز المرتبط به. إن محفظة الطاقة المتنوعة ستعزز قدرة العراق على الصمود أمام تقلبات سوق الطاقة العالمية.
- مواءمة العراق مع أفضل الممارسات الدولية وتوفير إمكانية الوصول إلى الدعم الفني والمالي.
- تعاون العراق مع الدول المجاورة لتبادل المعرفة والتكنولوجيا وأفضل الممارسات للحد من حرق الغاز، ويمكن للتعاون الإقليمي أن يساعد أيضا في معالجة قضايا التلوث العابر للحدود.
- إلغاء تراخيص المخالفين المتكررين ومحاسبة الشركات عن الأضرار البيئية. وكذلك دعم الشركات التي تتمثل عبر الإعفاءات الضريبية، أو الإعانات، أو القروض المنخفضة الفائدة لجعل هذه الاستثمارات أكثر جاذبية.
- إطلاق حملات توعية عامة لتثقيف السكان بالآثار البيئية والصحية لحرق الغاز، وهذا يمكن أن يساعد في بناء ضغط عام على الشركات وصانعي السياسات لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
تتعدد الأضرار الناجمة عن عملية حرق الغاز المصاحب، ولا يخفي المسؤولون العراقيون تلك الأضرار بل يعترفون بها، إلا أن حل المشكلة يجب أن يتجاوز مرحلة الاعتراف. وتؤكد الحكومة العراقية أنها تهدف لتنفيذ مجموعة من الحلول بحلول 2028، وسيعني ذلك إن حدث انقراض أحد أهم مسببات التلوث البيئي والأمراض السرطانية.