تونس- يضفي رذاذ الأمطار المتساقط من الغيوم الداكنة لمسة من البرد تنساب مع المشهد الباهت والكئيب في العاصمة تونس، حيث خرج اليوم عشرات المحتجين في مسيرة دعت لها “جبهة الخلاص” المعارضة للتظاهر تزامنا مع الذكرى الـ14 للثورة التونسية.
بدورها، انتشرت قوات الأمن بكثافة في كل زاوية من العاصمة، وطوقت الحواجز الحديدية الأمنية مختلف المداخل المؤدية إلى شارع الحبيب بورقيبة أيقونة الثورة التونسية الذي هب فيه حينها عشرات الآلاف من التونسيين لإسقاط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011.
ووسط المتظاهرين، يقف الشابان هيثم بوقرة وجعفر مسعي رافعين أعلام تونس، حيث تظهر التجاعيد على وجهيهما ويبدوان بملامح قست عليها الأيام رغم سنوات عمرهما الـ30، في حين تبدو عيونهما غارقة في التفكير عاكسة مزيجا من الإحباط والغبن.
شباب محبط
جاء الشابان إلى العاصمة للاحتجاج قادمين من مدينة المتلوي الملقبة بعاصمة المناجم والفوسفات، والواقعة بمحافظة قفصة الجنوبية، ويقول هيثم للجزيرة نت بنبرة حزينة “حين قمنا بالثورة كنا نحلم بوطن عادل وديمقراطي، لكن اليوم يبدو أن كل شيء انهار”.
يقول هيثم (38 عاما) ذلك وهو الذي تخرج عام 2012 -أي بعد سنة من اندلاع الثورة- في اختصاص صيانة المعدات الإلكترونية الطبية، لكنه لم يظفر بأي وظيفة، مما جعله يشتغل أحيانا عاملا يوميا، في حين فقد أمله بالنظام الحالي لزيادة التنمية بمنطقته المهمشة، حسب قوله.
ويقول هيثم -الذي أرهقته سنوات البطالة- إن “إعلان الرئيس الحالي قيس سعيد عن الإجراءات الاستثنائية عام 2021 زاد أوضاع البلاد سوءا”، مشيرا إلى أنه انقلب على قانون 38 لسنة 2020 المتعلق بتوظيف أصحاب الشهادات العليا.
ويهز صديقه جعفر مسعي رأسه موافقا الرأي، ويقول للجزيرة نت إن “الإجراءات الاستثنائية التي قام بها الرئيس سعيد ليست سوى إجراءات تعسفية دق بها آخر مسمار في نعش الثورة التونسية”، معتبرا أن ما قام به محاولة لإجهاض ثورة الحرية والكرامة.
يذكر أن جعفر (37 عاما) تخرج سنة 2013 في اختصاص صيانة المعدات الإلكترونية المستخدمة في تشغيل المحركات أو الآلات، لكنه يمضي أيامه منذ أكثر من عقد في محاولات البحث اليائسة عن عمل يؤمّن له قوته وقوت عائلته الفقيرة.
شعلة الأمل
ورغم حالة الخوف المتفشية في أوساط الشباب بسبب تواتر الملاحقات الأمنية والقضائية فإن هذين الشابين يؤكدان أن “الثورة التونسية لن تخمد رغم انتكاستها”، معتبرين أن الوهج الثوري لاسترجاع الحرية والكرمة مسار طويل يتطلب التضحية والنضال.
ورفع المحتجون الذين وقفوا اليوم على مدرج المسرح الوطني في العاصمة أعلام تونس وصور معتقلين سياسيين معارضين للرئيس سعيد زج بهم في السجون بتهمة التآمر على أمن الدولة، هاتفين بشعارات تطالب بإطلاق سراحهم وإعادة المسار الديمقراطي.
ويعتبر الشبان أن تغير النظام في سوريا يعيد إحياء الأمل في التغيير، وفي السياق يقول جعفر مسعي “إذا استطاع الشعب السوري إسقاط نظام استبدادي بعد نحو 5 عقود من القمع فإن التونسيين قادرون أيضا على استعادة ديمقراطيتهم دون إقصاء”.
انقسام المعارضة
وإضافة إلى المسيرة التي دعت لها منتصف اليوم جبهة الخلاص والمكونة أساسا من حركة النهضة دعت مجموعة من المنظمات والأحزاب الصغيرة -ضمن ما تعرف بالشبكة التونسية للحقوق والحريات- إلى مسيرة احتجاجية أخرى الساعة الرابعة عصرا بالتوقيت المحلي.
ويعكس تنظيم مسيرتين في توقيتين مغايرين اليوم صورة الانقسام المستمر بين أحزاب المعارضة نتيجة خلافات أيديولوجية، في وقت يرى بعض المراقبين أن الرئيس سعيد استفاد من هذا الانقسام ومن أزمة الثقة لدى الرأي العام في الأحزاب السياسية.
وتتهم المعارضة في تونس الرئيس الحالي قيس سعيد بتدمير مؤسسات الدولة وإغراق البلاد في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة بعد مرور 3 سنوات على اتخاذه التدابير الاستثنائية، في حين يقول أنصاره إنه يؤسس لمرحلة جديدة.
يذكر أن الرئيس سعيد كان قد أعلن عن إجراءات استثنائية في 25 يوليو/تموز 2021 عقب اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية أقال بموجبها حكومة هشام المشيشي وحل البرلمان وحل المجلس الأعلى القضاء، وألغى دستور عام 2014 واستعاض عنه لاحقا بدستور صاغه بنفسه عام 2022.
كما ألغى الرئيس سعيد -الذي صعد إلى سدة الحكم لأول مرة في خريف عام 2019- النظام البرلماني واستعاض عنه بنظام رئاسي يتمتع فيه بصلاحيات واسعة، وقد فاز بولاية ثانية في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنسبة تفوق 90%، في وقت اتهمته المعارضة بإقصاء خصومه وتلفيق التهم لإبعادهم عن المنافسة.