دمشق- في الساعة الثانية والنصف من صباح 21 أغسطس/آب 2012، أطلقت قوات النظام السوري المخلوع الموجودة داخل اللواء 155 بالقلمون مئات الصواريخ من نوع أرض أرض على مناطق في غوطة دمشق، محملة بغاز السارين السام (غاز الأعصاب).
حينها، كان الموت اختناقا بقذيفة الكيمائي نهاية للحدث والخبر، إلا أن قصصا أخرى مرعبة لم ترو بعد مرور أكثر من 12 عاما على الجريمة، فالغاز القاتل الذي تحمله القذيفة المميتة، بعد أن أودى بحياة المئات، مازال حتى الآن يفتك بأجساد الكثيرين من سكان المدن السورية المنكوبة.
صواريخ مدمرة
ووثقت الجزيرة نت الأعراض التالية الناتجة عن استنشاق تلك الغازات السامة:
- ضعف في النمو.
- فقدان شبه كامل للعقل.
- تآكل الأسنان.
- تساقط الشعر.
- ضيق التنفس.
- ألم شديد في العيون.
- الأمراض النفسية الناجمة عن رؤية الموت وجثث الضحايا من الأهل والأصدقاء والجيران.
تتميز الصواريخ التي تحمل رؤوسا كيميائية، والتي استعملتها قوات النظام المخلوع، بأنها لا تُحدث صوتا بعد انفجارها، ولا تخلف أضرارا على المباني، بل تخنق الأنفاس وتدمر الأعصاب. ومنذ عام 2012، استهدف النظام عددا من المناطق 184 مرة، استخدم فيها السلاح الكيميائي 217 مرة، بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
تُعتبر مدينة المعضمية الواقعة غربي العاصمة دمشق من أكثر المناطق التي تأثرت بالهجوم الكيميائي، حيث يقول سكانها إن “مجزرة الكيميائي”، التي قتلت المئات من أهلها بصمت وهدوء بارد، ما زالت مشاهدها محفورة في ذاكرتهم وآثارها على أجسادهم، وسط تجاهل حكومي ودولي مخيف، وفق تأكيدهم.
يقول رياض عبد الغني، المسؤول عن إحدى النقاط الطبية في المعضمية أثناء المجزرة، للجزيرة نت “إننا أول وسيلة إعلامية تأتي وتسأل عن حال من أصيبوا فيها خلال وجود نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وبعد سقوطه”، مؤكدا أن وزارة الصحة في عهده كانت “تتنكر للمصابين بغاز الأعصاب”، ولا تقدم لهم أي خدمات صحية، مما ضاعف من الحالة السيئة التي يعاني منها المئات الآن.
ويضيف “في عهد الأسد كنا لا نستطيع القول إننا مصابون بمضاعفات غاز السارين القاتل رغم الألم المميت”، كاشفا أن كثيرين كانوا يخفون إصابتهم خشية الاعتقال والقتل من قبل مخابرات النظام المخلوع.
وحسب عبد الغني، يعاني كثير من سكان غوطة دمشق الآن من آثار غاز السارين إلا أنهم يخافون الحديث عن أمراضهم لسببين:
- الأول: خشية أن يخافهم الناس ويبتعدوا عنهم ويتجنبوا الاختلاط بهم خوفا من العدوى.
- الثاني: ظنهم أن لا أحد سيهتم بأمرهم “لوجود مسائل أكثر أهمية لدى السلطات الجديدة”، مثل ملف المعتقلين، والاقتصاد المنهار، والبنية التحتية المدمرة.
وطالب وزارة الصحة الحالية بالتدخل السريع لعلاج المصابين من مجزرة الكيميائي حتى لا تتضاعف حالتهم الصحية وتصل لمراحل لا يمكن علاجها، مثل الأطفال الذين أصيبوا بضعف النمو، حيث أثبتت التحاليل أن غاز السارين يعوق التطور الطبيعي في أجزاء مختلفة من الجسم.
مأساة
ضعف النمو وانكماش العضلات أكدته ديبة الدوماني، وهي سيدة من سكان الغوطة الغربية، تحدثت للجزيرة نت عن مأساة حفيدها غياث مطر الذي استلهمت اسمه من أيقونة مدينة درايا المجاورة، والمعروف بأنه بطل المظاهرات السلمية الذي قتله نظام الأسد بطريقة بشعة استنكرتها المنظمات الدولية.
أصيب غياث بنقص النمو ورغم أنه يبلغ 13 عاما، فإن عقله وجسده يشيران إلى أنه في الخامسة من عمره بسبب إصابته بغاز السارين، وفق الدوماني.
لم تتمالك الجدة دموعها التي انهمرت على وجنتيها وهي تقول “ذبح نظام الأسد زوجي بالسكين أمام عيني وأهلك حفيدي بمرض عضال، وقال أطباء مختصون إنه فقد عقله ولن يكون قادرا على العيش بشكل طبيعي مثل باقي الأطفال”.
التقت الجزيرة نت بطفل آخر قال أهالي المدينة إنه مصاب بالآثار ذاتها التي ظهرت على غياث بعد استنشاق غاز السارين.
عبد الرحمن خالد الواوي يبلغ من العمر 11 عاما، إلا أن شكله وعقله يشيران إلى أنه لا يتجاوز 6 سنوات أو أقل. يقول والده للجزيرة نت إنه يعاني من سوء تغذية وضعف نمو تسببا بانكماش في الجسد وخلل في العقل بسبب استنشاق هذا الغاز السام.
وأوضح الأطباء للوالد أن عبد الرحمن استنشق كمية كبيرة من غاز الأعصاب أنهكت جسده النحيل وتسببت له بمضاعفات خطيرة، وأنه كان يحتاج تدخلا سريعا بعد الإصابة لتخفيف الآثار المدمرة للكيميائي، و”لكن هذا لم يحدث”.
كان النظام المخلوع يمنع أي أحد من الحديث عن إصابته بالغاز الفتاك، يؤكد والد عبد الرحمن. وتابع “جسد ولدي يتآكل كل يوم أمام عيني ولم أستطع أخذه إلى المستشفيات أثناء حكم الأسد، وتقبلت إصابته خيرا من فقدانه أو قتله من قبل أعوان النظام في مستشفياته التي كانت تخفي أي دليل على مجزرة الكيميائي التي مازالت آثارها حاضرة حتى اليوم”.
بطل المقابر
من جانبه، يملك خالد الهمشري، وهو موظف في بلدية المعضمية، عربة لنقل القمامة يعتبرها جزءا منه، ورفض الحديث مع الجزيرة نت إلا والعربة الخضراء بجانبه مطالبا تصويرها بشكل واضح.
يملك الهمشري ابتسامة مميزة، إلا أن الأسد الذي أخفى ضحكات الآلاف من الشباب في سجونه المخيفة، تسبب بتآكل أسنان خالد. ويقول “ربما خرب الأسد ابتسامتي، ولكنه هرب وأنا مازلت أبتسم”.
بحسب خالد، تسبب غاز السارين بالتهاب شديد في لثته وأسنانه وتساقط مستمر لشعره. ويضيف ضاحكا “أشعر كل يوم أن شكلي يتغير وشعري يسقط وأسناني أصبحت شبه متآكلة بسبب الكيماوي، ولكن ذلك لا يهم فأنا اليوم حر وأعمل لخدمة أهل منطقتي، فما دامت عربتي الخضراء تعمل فأنا بألف خير”.
بحثت الجزيرة نت عن الأشخاص الذين كانوا يسعفون الناس أثناء قصف النظام للغوطة بصواريخ الكيميائي، لتكتشف أن معظمهم قد ماتوا اختناقا لحظيا، أو نتيجة الآثار الفتاكة لغاز السارين بعد يومين أو 3 أيام من وقوع المجزرة.
نجا منهم راتب رجب المعروف بين أهالي المعضمية بـ”بطل المقابر”، وذلك لدفنه أكثر من ألف شهيد في الغوطة الغربية. ويقول للجزيرة نت إن كثيرا من زملائه المسعفين “استشهدوا” على الفور بعد استنشاقهم غاز الأعصاب، و”لم يبق منهم إلا أنا وبعض الشباب”.
يصف راتب حالة من تبقى من المسعفين بـ”المأساوية”، إذ يعانون من ضيق في التنفس حتى الآن، وعدم القدرة على التحرك في كثير من الأحيان، وضعف في النظر، وآلام شديدة في العضلات وفي الصدر، وفقدان جزئي للعقل.
وطالب بتدخل الجهات المختصة لعلاج من عاش من أصدقائه المسعفين قائلا “لقد دفنت المئات من الشهداء في مقابر مجهولة الهوية وأخرى معروفة، ولكنني لا أريد أن أدفن أحدا من أصدقائي بعد الآن”.
إخفاء الجريمة
بدوره، نجا الشاب أحمد الخطيب من المجزرة، لكنه دفن أباه سعيد وأخاه عمر بعد تعرضهما لموجة كبيرة من غاز السارين نتيجة إصابة مباشرة لصاروخ يحمل رأسا كيميائيا أصاب منزلهم.
يروي أحمد للجزيرة نت مأساة صباح 21 أغسطس/آب 2012، حيث شاهد الجثث وهي تملأ حارته الضيقة المدمرة، وعلى أطرافها جثتا والده وشقيقه.
ويقول “أبي كان بطلا انشق عن النظام المخلوع لخدمة أهالي مدينته، ليقتله بصاروخ كيماوي دمر رئتيه وأخرج الزبد من فمه، وارتقى شهيدا مع الذين استشهدوا وكتب استشهاده قصة رجل رفض الذل ومات حرا بين أهله وناسه”.
حاولت الجزيرة نت التواصل مع وزارة الصحة الجديدة لمعرفة خططهم بشأن ملف المصابين بمجزرة الكيميائي، لكن لم تتلق إجابة واضحة. ورفض بعض الأطباء في المستشفيات الكبيرة بدمشق الحديث عن الأمر، قائلين إنه “حساس للغاية ويتطلب موافقة مباشرة لكشف تفاصيله”.
يقول طبيب دمشقي يعمل ضمن الإدارة السورية الجديدة، رفض الكشف عن اسمه، للجزيرة نت إنه كان يعمل في مستشفى “المجتهد” أكبر مشافي دمشق وأهمها أثناء حدوث المجزرة المروعة.
وأوضح أنه عندما وقعت مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق، جاءهم توجيه من جهات عليا بعدم التعامل مع أي حالة مصابة بغاز السارين، وطُلب منهم الإبلاغ عن أي شخص يأتي للمستشفى بغض النظر عن جنسه وعمره يدعي إصابته بهذا الغاز.
ووفق المصدر نفسه، حدثت في مستشفيات عديدة بدمشق عمليات إخفاء لأشخاص قدموا لتلقي العلاج من آثار الكيميائي ولم يُعرف عنهم أي شيء بعد اعتقالهم. وأكد أنهم كأطباء يدركون تماما الآثار السلبية التي يتسبب بها غاز السارين، و”لكننا كنا نخاف حتى قول كلمة مجزرة الكيماوي أمام أي أحد خشية الاعتقال”.
وخلال عام 2012 وحده، يضيف، أنه وصلتهم عشرات الحالات المصابة بالكيميائي وكانوا يسجلونها حالات اختناق أو ضيق في التنفس أو أي شيء آخر، “المهم ألا تسجَّل أنها مصابة بغاز الأعصاب السام”.
وقال إن الحالات المصابة التي وصلتهم في مستشفى “المجتهد” كان معظمها من غوطة دمشق، وكانت حالات شبه ميؤوس منها، و”كنا نقول بين بعضنا: هناك جريمة جديدة مروعة ومتكاملة الأركان تحدث في غوطة دمشق بطلها بشار الأسد المخلوع”.