في أعمال الكاتب والروائي المصري فريد عبد العظيم السردية، ما يجعلك تلمس اتساقا واضحا في الرؤية والموقف المقاوم -إن جاز القول- عبر الفن ورؤاه ومخبَر الكتابة والتجربة. فالكاتب هنا يؤمن أولا بخيارات التلقي لصالح قارئ أو مشاهد ومتلق حيوي ومفترض لرسالة الرواية كنوع أجناسيّ آخذ في الاتساع مأخذا مختلفا وطاغيا في المساحات والحلول والحضور، وشغف التمدد بوعي منجز كالرواية، ما يحقق علامة إبستمولوجية لمعنى ومنتج أدبي كثيرا ما تفتح اشتراطاته الفنية وأفكاره آفاقا للثقافة والتثاقف الإنساني خارج معطى الصراعات في العالم.
في بعض أعماله وقصصه، يبقي السرد على بدائل الصورة والخطاب والتقنية واستثمارها كأثر مونودرامي حينا، وتجاسر جديد مع السينما وفنون التوثيق الأخرى. علاوة على أن إعطاء الكاتب احتمالية أكبر في التأثير لعوامل غير مرئية قد يجاوز عزلة مقولة “بارط” التراثية، من حالة “موت الباثّ” إلى “حياة الرواية” اليوم في “بورصة التداول الثقافي”، ومن منظور التداولية بحيوية فعل القراءة بمستويات متعددة، تقابلها “ميتا-القراءة” مقترنة بحرية تأويلات القارئ، متخففا من حمولات النقد الرسمي أو المدرسي، كما في تنميطه وتلاشي تأثيراته داخل غرف أو فصول المحاضرة.
فيما يتفطن الروائي إلى سرد يتغاير في اقترابه من التاريخ دون تعلق بالرواية التاريخية المباشرة، إلا في صورة تضافر للسرد متقاطعا وتشابهه مع مواضيع شتى مبسوطة في أرض الرواية الخصبة، والإبقاء على علاقة شراكة بين الإبداع وما يليه من عملية إحياء لخطاب قائم على الحوار، وحدث مواز لحياة الشخصية بواقع التفاعل غير المباشر مع عناصرها.
-
من خلال السمات الفنية ومؤثرات السرد في أعمالك، توظف تقنيات متعددة تأخذ طابعا دلاليا لا يقف عند مستوى واحد؟
لكل عمل مستويات عدة للقراءة، أؤمن بذلك وأحترمه. لست كاتبا نخبويا، ولا أميل إلى التجريب إلا إذا دعتني الضرورة لذلك. أعتبر أن الرواية، بلا أي تعقيدات نقدية، ما هي إلا حكاية؛ لذا أهتم كثيرا ببناء حكاية تجعل القارئ يستمتع بالقراءة، حتى لو لم يدرك مقاصدي. لا أمتعض من قارئ يعتبر الرواية مجرد وسيلة للتسلية، وأهتم بأن تصل أفكاري إلى القارئ. لا أكتب معلومات مجردة ينفر منها القارئ، وإنما أقدم أفكارا وأسئلة وهواجس من خلال قصة وعالم متكامل.
في “الهروب من الظل”، استعرت طريقة سرد كلاسيكية من الماضي، وهي أدب الرسائل. الرواية عبارة عن عشرات الرسائل يدونها حبيب إلى حبيبته. حاولت تقديم “الميتا رواية”، أي كتابة رواية مستقلة داخل الرواية الأصلية. اعتمدت أسلوب الراوي العليم، وأحيانا الراوي المشارك. استخدمت ثيمة الحب الجذابة لجيل جديد في مستهل رحلته مع القراءة، ليس حبا مستهلكا بالطبع، وإنما محاولتي لفهم معنى الحب من منظورات متعددة. اعتمدت في هذا العمل مبدأ أن دور اللغة هو فقط إيصال الأفكار، وسيلة لا غاية في حد ذاتها.
-
كيف يتعين لديك قرار الكتابة ولحظتها في تعزيز بنية الرواية متماسكة وتضفيرها بحكاية الشخصية وبحدث وزمن بعينه؟ وأي أزمنة وضمائر السرد تحبذ أن تشيع في روايتك؟
لا أحد فينا يقرر متى سيكتب، وأي أسلوب سيتبع. لحظة الكتابة غالبا ما تكون غير مخطط لها، فالفكرة هي التي تحتم على الكاتب أسلوب كتابتها. بالنسبة للضمائر والأزمنة، فمن الصعب أن أتخذ قرارات والورقة ما زالت بيضاء. ينساب العمل على الأوراق، فتتضح الرؤية شيئا فشيئا؛ تكتب ثم تمحو، تستفيق من حلم الكتابة، ثم تشرع بعدها في استخدام أدواتك كروائي.
-
في سياق من كتابة روايات سابقة لك، ومجموعات قصصية حافلة بالمفارقة والإبداع، كيف مهدت تجربتك خلالها حثيثا لتُجاور جنسا أدبيا شائعا وطاغيا في المشهد كالرواية؟
“الهروب إلى الظل” أجبرتني على العودة إلى الماضي. لا تستهويني -عادة- الرواية التاريخية، لكني اضطررت إلى الكتابة عن التاريخ في الرواية. شخصيتان رئيسيتان: فريد حداد، المناضل السياسي، وبهيج داوود، المثقف السبعيني الذي يشاهد القاهرة بعد غياب قبيل ثورة 25 يناير. تتنوع أساليب السرد في العمل بين الراوي العليم والراوي المشارك، بالإضافة إلى ضمير المتكلم الذي يصحبنا في أغلب فصول الرواية. أعتقد أن روايتي تؤرخ لجيل الستينيات الثقافي ورؤيته للوطن والعالم، والعلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة.
أعتقد أن الزمن قد تجاوز التعريفات الدقيقة للقصة والرواية. الأجناس الأدبية ما هي إلا وسيلة لتمرير الرؤى والأفكار في قالب أدبي. كثيرا ما قرأت عن الفروقات العديدة بين القصة والرواية والنوفيلا، لكني لا أهتم بذلك، فالأدب عابر للأجناس. دائما ما كنت أقرأ أن القصة القصيرة تحتوي على حدث واحد، مشهد، موقف لحظي. قرأت منذ فترة قصة قصيرة رائعة تتضمن 3 أجيال، وأحداثها تدور خلال 50 عاما، ثم قرأت رواية فاتنة تبدأ أحداثها وتنتهي خلال بضع ساعات في يوم واحد، ولا تتضمن إلا شخصية واحدة. العبرة هي جودة العمل.
رغم ذلك، أؤمن بأن القصة القصيرة قد ساعدتني في استخدام الجمل القصيرة، وعدم الإطناب، والاستخدام الجيد للصورة البصرية المكثفة، والتعبير عن الأحداث والمشاعر اللحظية.

-
فيمَ قد يستوقف النقد الأدبي في تجربتك، هل وجدت رصدا لجماليات خاصة، مثلا؟
لا أحد يستطيع تقييم نفسه. أعمل بجد على بناء مشروعي الروائي، فعل الكتابة يحقق لي السلام والتوازن النفسي. أكتب لأنني أحب هذا الفعل. لن أنكر أن الاهتمام النقدي قد يسعدني، كأي إنسان. قد أفرح عندما يثمن أحدهم تجربتي أو يمتدحها، وأحزن إذا شعرت بالتجاهل. لست سيئ الحظ، فمنذ عملي الأول، حظيت بكثير من الاهتمام من قراء ونقاد وصحفيين.
-
ما التحديات برأيك التي يجب على الكاتب استشعارها عند كتابة رواية أو عمل جديد؟
كل كاتب يواجه صعوبات مختلفة عند الشروع في كتابة عمل جديد. في عالمنا العربي تحديدا، الأمر أكثر صعوبة. لا يمكن أن يتفرغ كاتب لفعل الكتابة، ففي أفضل الأحوال، لا يستطيع أن يتفرغ للعمل الإبداعي لأكثر من بضع ساعات يوميا.
لو تجاوزنا ذلك، وافترضنا أن الكاتب يعيش حياة مستقرة ماليا، وعدد ساعات عمله اليومية مناسب، ويستطيع استقطاع جزء من يومه لعملية الكتابة، تتوالى العقبات: سدة الكتابة، تشابك الأفكار، الثقة في جودة ما يكتبه، الجملة الأولى، المقطع الافتتاحي، النهاية المناسبة، اللغة المناسبة، صوت كل شخصية، التكنيك الأدبي الأكثر تناسبا مع الفكرة. لو مر كل ذلك بسلام، يواجه الكاتب معضلة المسودة الأولى.
في الغالب، بمجرد أن ينتهي من قراءتها، يراها النسخة الأكثر سوءا، ويمتعض من تفككها ورداءتها في بعض أجزائها. ينفق أشهرا في مسودات عدة، حتى يصل إلى النسخة النهائية من عمله الإبداعي. يدفع بها إلى الناشرين، فيقابله كثير من خطابات الرفض والاعتذارات. في الأخير، قد يتحمس أحدهم، ويدفع بها إلى المطبعة. عند هذه اللحظة تحديدا، تظهر معضلة الشروع في كتابة عمل جديد، بكل ما يحمله ذلك من صعوبات.
-
تقارب في أعمالك ثيمات ربما بقيت تسحب ظلالها من خلال علاقتك بفن القصة القصيرة. كيف تتغير العلاقة هنا بلحظة الكتابة وتأثيرات أجناسها؟
قرأت في الكتب أن الفكرة تأتي ومعها قالبها الأدبي المناسب لها، وليس للكاتب دخل في ذلك. هذه الفكرة لا تصلح إلا أن تكون مسرحية، وتلك لن تظهر معانيها إلا من خلال رواية، وهذه قصة قصيرة، وتلك نوفيلا. للحق، لست مقتنعا بذلك تماما.
تجربتي الشخصية مختلفة؛ ألفت 4 روايات، وكتبت 20 قصة قصيرة، وكل رواياتي كانت قصصا قصيرة في السابق، ثم حولتها إلى رواية. أعتبر أن قصصي القصيرة هي نواة مشروعي الروائي. لا أعرف هل سأستمر في ذلك، أم تتغير قناعاتي مع الوقت.
-
حسنًا، على ذكر الوقت عند اقتناص فكرة جديدة، هل يحدوك الشغف نحو اقتصاد لغة متقشفة حينا وبقدر يوائم بين اختزالية العبارة في القص وبين كثافة الجملة وعدم الإفراط في الوصف عند كتابة الرواية؟
لكل رواية عالمها الخاص، بناؤها، لغتها، وتكنيكها المناسب. لست من هواة الزخرفة اللغوية، ولا أحب أن تكون جماليات اللغة عائقا للقارئ، قد تجعله يستمتع بها، مبتعدا عن أفكار النص.
لا أحد يستطيع تجاهل الوصف، فالحكايات لا تكتمل دون وصف مكاني وزماني وشعوري. أستخدم الوصف كوسيلة لا غاية، وأحاول قدر المستطاع استخدام لغة سلسة، دون أي بهرجة لغوية.

-
تميل ككاتب إلى توظيف الحوار كتقنية تختلف من كاتب إلى آخر. لجهة الرؤى والتأثيرات المدروسة، هل قصدت بذلك شد انتباه وتركيز القارئ؟
أستخدم الحوار بحرص، وأميل أكثر إلى المدرسة التي تعتمد السرد أساسا للرواية. أحيانا يكون الحوار ضروريا لشرح دوافع أو شعور إحدى شخصيات العمل، لكني أقتصد في الجمل الحوارية. أشعر أنه لو طغا الحوار على النص، لتحولت الرواية إلى مسرحية وغادرت القالب الروائي.
-
يصادف قارئ عملك أنك توظف عبارات من العامية أو مفردات بعينها. وهذا متاح في السرد وبالخصوص في الحوار.
لغة أي نص تشابه شخوصه. أكتب اللغة التي تناسب أبطالي وأفكارهم. اللهجة العامية تقرب المسافات، فقد توضح جملة واحدة معنى نحتاج إلى تفسيره في صفحة كاملة من السرد بالفصحى. استخدام لهجات العامية قنبلة موقوتة، ويجب على أي روائي الحذر والحرص عند استخدامها، فجملة منفلتة تخرج من فم شخصية إلى الأوراق قد تحدث فجوة في النص.