في مشهد يعكس التحولات العميقة في الاقتصاد الصيني، تشير الإحصاءات إلى أن مليونيرا واحدا يغادر كل 40 دقيقة، فيما تجاوز عدد المليونيرات الذين هاجروا خلال السنوات الثلاث الماضية 47.3 ألف شخص.
هذه الظاهرة، بحسب خبراء الاقتصاد، تعكس جانبا من الضغوط الهيكلية التي تواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والتي لا تقتصر على تداعيات وباء كورونا، بل تمتد لتشمل أزمة العقار المتفاقمة، وارتفاع الدين العام، والتوترات التجارية مع الولايات المتحدة.
47 ألف مليونير في 3 سنوات .. الأثرياء يفرون من الصين
تداعيات كورونا وسوق العمل المتأثر
يؤكد البروفيسور جون غونغ، أستاذ الاقتصاد في جامعة الأعمال والاقتصاد الدولية، خلال حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أن الاقتصاد الصيني يمر بمرحلة حرجة رغم استعادته بعض معدلات النمو بعد فترة الركود التي شهدها خلال جائحة كورونا.
“الاقتصاد الصيني أصبح أقرب إلى الاقتصاد المتقدم، حيث يحقق الناتج المحلي الإجمالي نموًا سنويًا يزيد على 5 بالمئة، وهو معدل جيد مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى. لكن التحديات الكبيرة تكمن في سوق العقارات والنمو المنخفض في الاستهلاك.”
ويشير غونغ إلى أن آثار الجائحة لا تزال محسوسة على سوق العمل، حيث تراجعت الوظائف في بعض القطاعات الأساسية، ما أثر على قدرة الأسر على الإنفاق، وأدى إلى زيادة حجم الادخار.
غونغ: أزمة العقارات والاستهلاك تضغط على الاقتصاد الصيني
أزمة العقارات: 80 مليون وحدة فارغة
أحد أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد الصيني هي الأزمة العقارية التي تركت أكثر من 80 مليون وحدة سكنية غير مأهولة. هذه الأزمة، بحسب غونغ، لها تبعات مباشرة على ميزانيات الحكومات المحلية التي تعتمد بشكل كبير على مبيعات الأراضي كمصدر رئيسي للدخل.
“بتراجع هذا النوع من الدخل، تجد بعض الحكومات المحلية نفسها مضطرة لتقليل الإنفاق، ما يؤثر بدوره على الاقتصاد الكلي ويزيد من نقاط ضعف النظام المالي.”
الأزمة العقارية ليست مجرد مشكلة محلية، بل تشكل تهديدًا للنمو الاقتصادي على المستوى الوطني، إذ تقلص الاستثمارات في قطاع يعتبر محركًا رئيسيًا للنمو والعمالة.
معدلات الديون المرتفعة
تجاوزت ديون الصين 16 تريليون دولار، وهو رقم يعكس حجم الالتزامات المالية الكبيرة على الدولة، سواء من الحكومات المحلية أو الشركات. يشير غونغ إلى أن هذه الديناميكيات تجعل الاقتصاد أكثر هشاشة أمام أي صدمات خارجية أو داخلية، ما يزيد من حاجة الحكومة لتطوير سياسات مالية ونقدية أكثر مرونة وفاعلية.
سوق الأسهم الصينية: مكاسب تاريخية وتحذيرات من فقاعة
في الوقت الذي يغادر فيه بعض المليونيرات الصين، تشهد أسواق الأسهم انتعاشًا غير مسبوق. فقد ارتفع مؤشر “شانغهاي المركب” منذ بداية العام بأكثر من 15 بالمئة ، مسجلاً أعلى مستوياته في عشر سنوات، ووصل حجم السوق إلى 14 تريليون دولار، مع مكاسب أسبوعية بلغت تريليون دولار.
“هذه الارتفاعات دفعت مؤسسات مالية عالمية للتحذير من فقاعة محتملة قد تنفجر في أي لحظة”، يقول غونغ، مضيفًا أن التدفق الكبير للمدخرات الصينية نحو السوق يعكس رغبة الأفراد في الحفاظ على أصولهم وسط عدم اليقين الاقتصادي.
هجرة المليونيرات: هل هي أزمة أم ظاهرة مؤقتة؟
بالرغم من الأرقام المقلقة بشأن هجرة المليونيرات، يرى غونغ أن الصورة ليست بالضرورة كارثية:
“لا أوافق تمامًا على وصف الأمر بأنه هجرة جماعية. كثير من هؤلاء الأشخاص يحتفظون بروابط قوية مع الصين، ويمتلكون منازل وحسابات في الخارج كشبكة أمان، لكن أعمالهم الأساسية لا تزال في الصين.”
ويشير إلى تجربة هونغ كونغ بعد عودتها إلى الصين عام 1997، حيث شهدت موجات هجرة مشابهة لكنها لم تؤثر على استقرار المدينة الاقتصادي على المدى الطويل.
رونغ هوان: الضغوط الأميركية دفعت الهند نحو الصين
التوترات التجارية مع الولايات المتحدة
تظل العلاقات الصينية–الأميركية محورًا أساسيًا في فهم التحديات الاقتصادية الحالية. يوضح غونغ أن الحكومة الصينية تعاملت مع الرسوم الجمركية الأميركية بروح التفاوض الذكي:
“في إبريل الماضي، ارتفعت الرسوم الجمركية بين البلدين بشكل كبير، لكن بعد ثلاثة أسابيع بدأ الجانبان بالتواصل، وتراجعت الرسوم تدريجيًا، وهو درس كبير يمكن الاستفادة منه.”
ويضيف أن الصين كانت الدولة الوحيدة التي نفذت استراتيجية الرد على الرسوم الجمركية، مما أسهم في إعادة التوازن إلى العلاقات التجارية تدريجيًا.
التحديات الديموغرافية واستهلاك الأسر
جانب آخر من نقاط ضعف الاقتصاد الصيني يتعلق بالنمو السكاني واستهلاك الأسر. يشير غونغ إلى أن الاستهلاك المنخفض مقارنة بالدول المتقدمة يشكل عائقًا أمام تحقيق نمو اقتصادي مستدام:
“النمو في الاستهلاك ليس مرتفعًا كما كان، وهذا يعكس تغيرات ديموغرافية تؤثر على قدرة الأسر على الإنفاق، بالإضافة إلى ضغوط على الحكومات المحلية من العجز المالي واستقطاع الإنفاق.”
الصين تواجه مرحلة اختبار
يخلص البروفيسور جون غونغ إلى أن الاقتصاد الصيني، رغم كل التحديات، يتمتع بمرونة كبيرة ويواصل تحقيق معدلات نمو جيدة مقارنة بالدول المتقدمة. ومع ذلك، فإن معالجة نقاط الضعف مثل أزمة العقارات، ارتفاع الديون، وهجرة المليونيرات، بالإضافة إلى تحسين الاستهلاك، ستكون أساسية للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي طويل المدى.
“الصين دولة قوية، وتحدياتها الحالية يمكن التعامل معها من خلال سياسات مالية ونقدية مرنة، واستراتيجيات تجارية مدروسة، وتعزيز ثقة المستثمرين المحليين والدوليين.”
العقوبات على سوريا .. صفحة من الماضي طويت