في زمن أصبحت فيه المعلومات سلاحًا فتاكًا، يخوض العالم حربًا جديدة لا تُرى بالعين، بل بالعقل. هذه الحرب ليست نبوءة مستقبلية، بل واقع يومي نعيشه في هواتفنا، حيث يضغط خبراء الذكاء الاصطناعي على خوارزميات صغيرة لتعيد تشكيل وعي ملايين البشر.
من حرب أوكرانيا إلى غزة، ومن الانتخابات الأميركية إلى الحملات التي تغزو المنصات العربية، نرى كيف بات “المحتوى” هو القذيفة الجديدة، وكيف تحوّل الأكثر رواجا “الترند” إلى ميدان اشتباك، تحرّكه مختبرات سيبرانية وجيوش رقمية تعرف تماما ماذا نحب، وماذا نكره، وكيف نغضب.
حرب المعلومات: ساحة جديدة للصراع
يصف الكاتب الفرنسي ديفيد كولون في كتابه “حرب المعلومات.. كيف تسيطر الدول على عقولنا” هذا الواقع بأنه طور جديد من الصراع. لم تعد القوة العسكرية أو التفوق الاقتصادي وحدهما كافيين، بل صارت السيطرة على المعلومة هي سلاح الدول الأشد فتكا.
يكشف كولون كيف تتحوّل المعلومة إلى سلاح عبر تحليل دقيق لتاريخ تطوّر الإعلام من وسيلة إخبارية إلى أداة سيطرة نفسية. فالمعلومة لم تعد تُنقل لتُعرّف، بل لتُوجّه وتُقنع وتزرع الانفعال المطلوب.
صناعة الرواية: جوهر حرب المعلومات
يرى كولون أن “صناعة الرواية” أصبحت جوهر حرب المعلومات. كل حرب تبدأ اليوم بخبر يُصاغ بعناية، وصورة تُختار بدقة، قبل أن تبدأ الطائرات بالإقلاع. الدول الكبرى تتعامل مع الرأي العام بوصفه “هدفا عسكريا” يجب إخضاعه.
يضرب كولون أمثلة عديدة منذ حرب الخليج عام 1991، حين استخدمت الولايات المتحدة آلة إعلامية ضخمة لتبرير الحرب ضد العراق. قصة “الرضّع الذين أُخرجوا من الحاضنات في الكويت” كانت واحدة من أشهر الأكاذيب التي حركت الضمير الغربي نحو الحرب.
من يملك أدوات السيطرة؟
يبيّن كولون أن السلطة الجديدة لا تتجسد في الدولة وحدها، بل في التحالف بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى. شركات مثل غوغل وميتا وتويتر أصبحت تمتلك القدرة على رصد المشاعر وتحليل الرغبات والتنبؤ بالسلوك البشري.
طوّرت الدول الكبرى جيوشها الإلكترونية. روسيا أنشأت مصانع للذباب الرقمي تُدير آلاف الحسابات المزيفة. الصين بنت “جدارها الناري العظيم” لحماية فضائها المعلوماتي، قبل أن تحوّله إلى سلاح هجومي منظم.
الزاوية النقدية
يتميّز كتاب كولون بقدرته على الجمع بين الدقّة الأكاديمية والإثارة الصحفية. الكتاب يقدم تشريحا لعصر فقد القدرة على التمييز بين الواقع وصورته.
لكن الكتاب يميل إلى رؤية تشاؤمية كلية، حيث يبدو العالم محكوما بآلات الدعاية ولا مكان فيه لمقاومة فردية. يبدو أن المؤلف يُنكر إمكانية الوعي الذاتي لدى المتلقي أو المجتمعات.
حرب على الإنسان
ما يصفه كولون في كتابه يعيش بيننا يوميا في العالم العربي، حيث تتناسل الجيوش الإلكترونية وتُدار الحسابات الوهمية مثل فرق ظلّ داخل الفضاء العام.
في حملات التضليل المرتبطة بالحروب الإقليمية أو بالقضايا الحساسة، تتكرّر التقنيات نفسها التي يحذر منها كولون. الكتاب يغدو مرآة محرجة لنا جميعا، سواء الصحفي الذي ينساق وراء الخطاب الجاهز، أو المواطن الذي يشارك منشورا من دون تمحيص.
حرب المعلومات، كما يقول كولون، لا تنتهي، لأنها ببساطة حرب على الإنسان نفسه، وعلى قدرته في أن يفكّر بحرّية. في ظل هذه الحرب المستمرة، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكننا أن نعيد السيطرة على المعلومات، وبالتالي على حريتنا؟













