تخيّل السفر بين مدن العالم بسرعات لم تكن ممكنة من قبل. أبحاث جديدة في مجال الطيران، وتحديدًا حول ما يعرف بالطيران بسرعات “فرط صوتية” (Hypersonic flight)، قد تجعل من هذا الحلم حقيقة واقعة قريبًا. دراسة حديثة منشورة في دورية “نيتشر كومينيكيشنز” تلقي الضوء على إمكانية تجاوز التحديات الهندسية التي كانت تعيق تطوير طائرات قادرة على الوصول إلى سرعات تفوق حاجز الصوت بعشرات المرات. هذه التطورات تفتح آفاقًا جديدة في مجال النقل الجوي، وتقرّبنا من حقبة الطيران بسرعة عشرة أضعاف سرعة الصوت.
تعتمد هذه الأبحاث على فهم أعمق لخصائص جريان الهواء عند السرعات العالية جدًا، والتي تتجاوز ماخ 5 (خمسة أضعاف سرعة الصوت). الهدف ليس فقط بناء طائرات أسرع، بل تصميمها بطريقة تقلل من استهلاك الوقود وتضمن السلامة، مما يجعل الطيران بسرعات فرط صوتية ممكنًا من الناحية الاقتصادية والعملية.
سر “الماخ” الأعلى
إن الوصول إلى سرعات فرط صوتية، مثل ماخ 10 (عشرة أضعاف سرعة الصوت)، لم يكن ممكنًا بسبب الحرارة الشديدة الناتجة عن الاحتكاك بالهواء عند هذه السرعات. هذه الحرارة تتحول إلى بلازما، وهو ما يعقد من عملية التحكم في الطائرة. ومع ذلك، فإن الأبحاث الجديدة تشير إلى أنه يمكن التغلب على هذه العقبات من خلال استخدام مواد وتقنيات متطورة.
ويتم تعريف الماخ بأنه نسبة سرعة جسم ما إلى سرعة الصوت في وسط معين. عندما نسير في السرعات العادية، تكون هذه النسبة أقل من 1. أما مع زيادة السرعة، ترتفع قيمة الماخ وتزداد معها التحديات الهندسية.
تتطلب السرعات الأعلى من الماخ 5 إدارة دقيقة لتدفق الهواء حول الطائرة، بالإضافة إلى أنظمة تبريد فعالة للغاية. التصميم التقليدي للطائرات لا يمكنه تحمل الظروف القاسية التي تحدث عند هذه السرعات.
تحديات تصميم الطائرات الفرط صوتية
أحد أهم التحديات هو تطوير مواد قادرة على تحمل درجات الحرارة العالية الناتجة عن الاحتكاك بالهواء. عادةً ما يتم استخدام السبائك الخاصة من التيتانيوم أو المواد المركبة المصنوعة من الكربون. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هيكل الطائرة خفيف الوزن قدر الإمكان لزيادة كفاءة استهلاك الوقود.
تحدي آخر يواجه المهندسين هو تصميم محركات قادرة على توليد قوة دفع كافية لدفع الطائرة إلى سرعات فرط صوتية. تعتبر محركات الاحتراق النبضي (Pulse detonation engines) ومحركات نافذة (Scramjets) من بين التقنيات الواعدة في هذا المجال.
فرضية موركوفين: مفتاح فهم اضطراب الهواء
لطالما شكل فهم اضطراب الهواء (turbulence) عند السرعات العالية جدًا معضلة للعلماء. ولكن، فإن فرضية موركوفين، التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن الماضي، تقدم تفسيرًا مبسطًا لهذه الظاهرة. تشير الفرضية إلى أن سلوك الاضطراب عند سرعات فرط صوتية قد يكون مشابهًا لسلوكه عند السرعات المنخفضة.
أثبتت الدراسة الجديدة صحة هذه الفرضية من خلال إجراء تجارب في نفق رياح بسرعات تصل إلى ماخ 6. باستخدام تقنيات ليزر متطورة، تمكن الباحثون من تتبع حركة جزيئات الهواء بدقة عالية، وأظهرت النتائج أن سلوك الاضطراب كان متوقعًا بناءً على النماذج الرياضية التقليدية. وهذا يمثل اختراقًا كبيرًا في فهم ديناميكا الهواء عند السرعات العالية.
يفتح هذا الاكتشاف الباب أمام تبسيط عملية تصميم الطائرات الفرط صوتية، حيث يمكن الاعتماد على المعادلات والنماذج المستخدمة في الطائرات التقليدية مع بعض التعديلات الطفيفة. وهذا سيقلل من التكاليف والوقت اللازمين لتطوير هذه الطائرات.
من الطيران التجاري إلى العسكري
إن تبعات هذه التطورات لا تقتصر على مجال الطيران التجاري فحسب، بل تمتد أيضًا إلى المجال العسكري. فالطائرات المقاتلة التي تعتمد على تقنيات الطيران الفرط صوتي ستتمتع بقدرات تفوق نظيراتها التقليدية من حيث السرعة والمدى وقدرة المناورة. هذا سيعزز من قوة الردع العسكري ويوفر ميزة استراتيجية كبيرة.
كما أن فهم ديناميكا الهواء عند السرعات العالية جدًا قد يفتح الباب أمام تطوير تقنيات جديدة للوصول إلى الفضاء، مثل الطائرات التي يمكنها الإقلاع من الأرض والوصول إلى المدار دون الحاجة إلى صواريخ. هذه التكنولوجيا، رغم أنها لا تزال في مراحلها الأولية، قد تحدث ثورة في مجال استكشاف الفضاء.
الخطوة التالية المتوقعة هي إجراء المزيد من التجارب والتحليلات لتأكيد صحة فرضية موركوفين في نطاق أوسع من السرعات والظروف الجوية. ويجب أيضًا تطوير مواد وتقنيات جديدة قادرة على تحمل الظروف القاسية التي تحدث عند السرعات الفرط صوتية. يبقى التحدي الأكبر هو خفض تكاليف تطوير وتشغيل هذه الطائرات، مما يجعلها متاحة للاستخدام التجاري والعسكري على نطاق واسع.













